لا شيء يدل على الحالة التي وصلت إليها الأمور في الوطن العربي الآن أكثر من موقع الفيدرالية من التطورات الراهنة والجدل الدائر فيه، فقد أخذ بها العراق في نظام ما بعد الاحتلال الأميركي في ترتيب علاقته بأكراده، واقتُرحت في مؤتمر الحوار اليمني وتم تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم بالفعل، وظهرت في ليبيا كمطلب من البعض في أعقاب الإطاحة بنظام القذافي، وطرحها أكراد سوريا كنموذج أمثل لمستقبل سوريا. ما أبعد الليلة عن البارحة! فعندما طرحت الفيدرالية في سياق الجدل الدائر داخل المعسكر القومي العربي في سوريا قبل اتخاذ القرار بالتوجه إلى مصر طلباً للوحدة الفورية في 1958 نظرت الفصائل الناصرية إلى الطرح الفيدرالي لصيغة الوحدة باعتباره خيانة لدولة الوحدة! وتكرر الأمر في المناقشات التي سبقت قيام الوحدة اليمنية أواخر ثمانينيات القرن الماضي حيث نظر المتحمسون للوحدة الاندماجية إلى الطرح الفيدرالي لصيغة الوحدة كتمييع لا مبرر له للقضية مع أن تجربة الوحدة المصرية- السورية كانت قد أثبتت قبل أكثر من ربع قرن أن الصيغة الاندماجية ليست ملائمة للتمايزات الموجودة بين الأقطار العربية. وكما دفعت الوحدة المصرية- السورية ثمن الصيغة الاندماجية بتفككها فإن الوحدة اليمنية دفعت ثمناً باهظاً بحرب الانفصال في 1994، وعلى الرغم من انتصار الحكومة المركزية في تلك الحرب فإن نزيف الصيغة الاندماجية لازم الوحدة بنشأة الحراك الجنوبي تعبيراً عن رفض ممارسات حكومة صالح وتطوره لاحقاً إلى حركة انفصالية لم يُهَدئ منها إلا تكاتف القوى الوطنية اليمنية في مواجهة الانقلاب الحوثي بالتحالف مع صالح. والآن وبعد أن أصاب الوطن العربي ما أصابه فإن الفيدرالية تطرح لحل معضلة الاتجاه إلى التفكيك في عدد من الدول العربية كما سبقت الإشارة، أي أننا تراجعنا من رفض الفيدرالية كصيغة للوحدة العربية إلى الحلم بها كصيغة للحفاظ على الدولة الوطنية. والمشكلة أن فهمنا للفيدرالية كان خاطئاً في الحالتين فهي صيغة للوحدة الاندماجية ولكن مع توزيع للسلطات بين السلطة المركزية والولايات بحيث تحكم هذه الأخيرة نفسها في إطار الضوابط الفيدرالية وأهمها احتكار القوة العسكرية والسياسة الخارجية والعملة الوطنية من قبل السلطة الفيدرالية، وقد أنتجت هذه الصيغة دولاً عظمى وكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وكندا وألمانيا والهند وغيرها، فكيف نفسر الترفع عنها عند كل حديث عن الوحدة العربية إلا بسوء الفهم؟ والأخطر أننا في المرحلة الحرجة الراهنة ما زلنا مصرّين على الفهم الخاطئ للفيدرالية، فقد فُهمت في السياق العراقي مثلاً على أنها أقرب إلى الكونفيدرالية وهي تلك الرابطة التي لا تلغي سيادة الدول وتكتفي بتعاون بينها ونموذجها الجامعة العربية. فالإقليم الكردي في العراق له قوّته المسلحة الخاصة به ولا وجود للقوات المسلحة العراقية داخله، وقد سمعت قبلاً من إخوة عراقيين أن غير الأكراد من أبناء شعب العراق لا يدخلون الإقليم إلا بإذن سلطاته كما أن له علاقاته الخارجية الخاصة به، ومؤخراً أعلن رئيس الإقليم نية إجراء استفتاء على استقلال الدولة الكردية! ومن هنا فإن المعضلة في الطرح الفيدرالي كآلية لحل المعضلات التي يمر بها عدد من الدول العربية ليست في كون الصيغة الفيدرالية تنطوي على تفكيك للدولة ولكن في أن فهمنا الخاطئ لهذه الصيغة يعني ذلك فعلاً، فضلاً عن أننا لا يمكن أن ننكر أن التحول من دولة بسيطة أي ذات مركز واحد للسلطة إلى دولة مركبة وهي الفيدرالية في حالتنا يعني وَهَناً ما في تماسك الدولة. ومن هنا يمكننا أن نفهم شبه الإجماع على رفض مبادرة أكراد سوريا بإعلان الصيغة الفيدرالية كحل للصراع السوري وحتى الإدارة الأميركية التي تتحمل مسؤولية الحديث عن تقسيم الدول العربية، وليس مجرد تحويلها إلى دول فيدرالية، تحفظت بدورها على مبادرة أكراد سوريا. والواقع أن التحفظ الأساسي الذي يرد على هذه المبادرة هو أنها طُرحت من طرف واحد بينما مستقبل سوريا يعني شعبها برمته، فما أعجب حال بعض العرب! رفضوا الفيدرالية يوماً كصيغة للوحدة بين الدول العربية بحجة ضعفها والآن يهرول بعض آخر إليها للحفاظ على تماسك الدولة الوطنية.