في جمهورية بنين، الدولة الصغيرة الواقعة في غرب أفريقيا، كانت أولى بواكير التحول الديمقراطي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مطلع تسعينيات القرن الماضي، وفيها أتى هذا الأسبوع رئيس جديد للجمهورية منتخب، من المعارضة وليس من قيادة الحزب الحاكم. إنه السياسي ورجل الأعمال العصامي المعارض «باتريس تالون» الذي فاز بالدور الثاني من انتخابات الرئاسة، كما أعلن ذلك منافسه رئيس الوزراء المنتهية ولايته ليونيل زينسو، والذي قال: «لقد اتصلت بباتريس تالون، وهنأته بالفوز، وتمنيت له حظاً طيباً، ووضعت نفسي تحت تصرفه لإعداد ملفات نقل السلطة». ولد باتريس تالون في مدينة «أويدا» بجنوب بنين عام 1958، لأب يعمل بالسكك الحديدية. وبعد حصوله على شهادة «البكالوريا» (الثانوية العامة -قسم الرياضيات) في العاصمة السنغالية دكار، انضم إلى كلية العلوم في جامعة المدينة ذاتها، وأثناء السنة الثانية من دراسته الجامعية، نجح في مسابقة لتكوين الطيارين أجرتها شركة الخطوط الجوية الأفريقية، وأرسلته مع آخرين إلى قاعدة «دينج» الجوية في فرنسا لإجراء الفحوص الطبية، لكنه فشل في اجتيازها، فقرر الإقامة في باريس، وهناك بدأ يمارس مهاراته في الأعمال التجارية، وسرعان ما أصبح يورِّد البضائع إلى بنين ونيجيريا. وفي عام 1983 دخل مجال تجارة التعبئة والتغليف والمدخلات الزراعية، ثم أسس في عام 1985 شركة «توزيع إنتركونتيننتال» (SDI)، التي توفر المدخلات الزراعية لمزارعي القطن. وفي عام 1990، وبموجب توصيات البنك الدولي بتحرير الاقتصاد في دول غرب أفريقيا، كان مطلوباً من الدولة في بنين الانسحاب من قطاع إنتاج القطن، حيث فاز تالون بصفقة شراء ثلاثة مصانع لحلج القطن، ليصبح أكبر مستثمر محلي بهذا القطاع في بنين، رغم وجود منافسين أقوياء له، لكنهم كانوا أقل تنظيماً منه. وقد بدأ تالون منذ عام 1985 يؤسس شبكة من مصانع وشركات النسيج، سرعان ما انضوت تحت لواء مجموعته القابضة SFP (شركة التمويل والمشاركة) ومقرها في بنين، علاوة على اثنتين من أكبر شركات التوزيع وحماية المحاصيل وصناعة الأسمدة في كوت ديفوار. ورغم عدائه لحكومة بلاده خلال السنوات الماضية الأخيرة، فقد تميزت شركاته بإدارتها الحديثة، وبانتظامها في دفع الضرائب، وبالاستقرار الوظيفي لعامليها وانتظام رواتبهم، والتي غالباً ما كانت أعلى بكثير من المعدل الوطني للرواتب. كما اتصفت أعمال شركاته بالتكامل في سلسلة الإنتاج، من الاستيراد وحتى التصدير، مروراً بإنتاج المدخلات والمشتقات. ويبدو أن تالون أدرك مبكراً علاقة التداخل بين قطاعي الأعمال والسياسة في دولة نامية مثل بنين، فكان الزبون الأكبر لأعماله في الثمانينيات هو حكومة بنين الشيوعية في حينه، لذلك فقد أسس أعماله على الشراكة المباشرة مع السلطة في كل القطاعات التي تنشط فيها شركاته. وكان قرار الرئيس «نيسفور سوغلو» بتحرير قطاع القطن عام 1990، هو ما سمح لتالون بتعزيز موقعه في هذا القطاع. ثم ازدهرت مصانعه بتشجيع من القرارات التي اتخذها أيضاً الرئيس «ماثيو كيريكو»، لاسميا في ظل ارتفاع أسعار القطن والتي ولّدت أرباحاً هائلة في عام 2004. بيد أن انهياراً مفاجئاً في العام التالي تسبب في إفلاس الكثير من شركات القطاع، بما فيها بعض شركات تالون نفسه، لكنه احتفظ بشركات أخرى قوية، ليستحوذ على بعض الشركات المفلسة بأسعار زهيدة للغاية. وفي عام 2008 استطاع تالون، وبدعم من صديقه الرئيس «بوني يايي»، شراء عشرة محالج للقطن كانت لا تزال تحت سيطرة الدولة، ما جعله يملك 15 مصنعاً من أصل 18 هي كل مصانع القطن في البلاد، الأمر الذي جعل البعض يلقبه «ملك القطن». وقد حصل تالون في عام 2011 على صفقة مربحة أخرى من الحكومة، تتعلق ببرنامج للتحقق من قواعد الاستيراد، مما أثار الكثير من الانتقادات التي ذكّرت بأن تالون هو الممول الرئيسي لحملتي «يايي» الانتخابيتين (2006 و2011). لكن برنامج التحقق من قواعد الاستيراد سرعان ما تعطل، وبدأ الرجلان في تبادل التهم بينهما بسوء الإدارة والفساد المالي. فقد اتهم الرئيس حليفه السابق ورجل الأعمال بالاحتيال على أموال دعم الأسمدة المخصصة للمزارعين عام 2011، وعندها اضطر تالون للعيش في منفاه الاختياري بباريس، ثم عاد الرئيس «يايي» واتهمه بالتخطيط للانقلاب ضده عبر محاولة تسميمه. لكن تالون اعتبر ذلك عقاباً له على موقفه المعارض لتعديل الدستور بغية تمكين «يايي» من الحصول على ولاية رئاسية ثالثة. غير أن مصالحة جرت العام الماضي بين الرجلين، أغلقت بموجبها القضية، وسمح لتالون بالعودة إلى بنين وخوض المعترك السياسي، وبالفعل فقد خاض المنافسة الانتخابية على منصب الرئاسة، تحت شعار ثلاثي: القطيعة مع الماضي، العدالة المستقلة، والولاية الرئاسية الواحدة. وفي الجولة الأولى من الانتخابات التي تنافس فيها ثلاثون مرشحاً، يوم الخامس من مارس الجاري، حل تالون في المركز الثاني (23.52% من الأصوات) خلف رئيس الوزراء المنتهية ولايته المصرفي ورجل الأعمال الفرنسي البنيني «ليونيل زينسو» (27.11%). لكنه تقدم عليه في الجولة الثانية (20 مارس)، بعد أن قرر عشرون مرشحاً، على رأسهم رجل الأعمال سيباستيان أجافون الذي كان قد جاء ثالثاً في الجولة الأولى، منْح دعمهم لتالون. وجاء إعلان فوز تالون بالمنصب الرئاسي، الثلاثاء الماضي، ليس منه، وإنما من منافسه زينسو الذي اعترف بهزيمته وانتصار خصمه. وإذا كان انتهاء انتخابات الرئاسة البنينية على ذلك النحو يوحي بشيء من رسوخ التجربة الديمقراطية ونضجها، ويعيد للأذهان جانباً من تقاليد التناوب السلمي على السلطة في النظم الديمقراطية العريقة، فإن ظلالاً قاتمة من تجارب العالم النامي لا تزال تخيم على الحالة البنينية، ومن ذلك علاقة المال بالسلطة، وتبعية النخبة للمتربول الفرنسي، والافتقار إلى آليات واضحة إلى مراقبة الصفقات العمومية، وقدرة المال على صناعة الرؤساء.. إلخ. هذا علاوة على المشكلات الاجتماعية والاقتصادية العويصة التي سيتعين على الرئيس الجديد أن يتقدم في حلها خطوات ملموسة، فإلى جانب البطالة المنتشرة بين الشباب، يفترض أن يواجه الرئيس المنتخب تحديات كبرى أخرى تتمثل في انتشار الفساد داخل قطاعات رئيسية مثل الصحة والتعليم العدالة، في بلد صغير المساحة (110 آلاف كلم مربع)، ويبلغ عدد سكانه 10,6 ملايين نسمة، بينما يفتقر اقتصاده إلى تنويع مصادر الدخل، ويعتمد على الزراعة وتجارة الترانزيت وإعادة التصدير إلى نيجيريا، الشريك الاقتصادي الرئيسي والبلد الكبير المجاور. فهل يستفيد «ملك القطن» من تجاربه في عالم الأعمال، لصالح بناء مملكة التقدم والرفاه على أنقاض التجارب السابقة غير الموفقة كثيراً في بلده بنين؟ محمد ولد المنى