ذات يوم كانت بلجيكا في طليعة التقدم الأوروبي. فقد كانت ثاني دولة في العالم تدخل مرحلة الصناعة وهي مؤسسة فن الآرت ديكو والسيريالية ومنجبة علماء حصلوا على جائزة نوبل. وعلى الرغم من أن تنظيم «داعش» أعلن مسؤوليته عن هجمات يوم الثلاثاء الماضي الإرهابية في بروكسل لكن هذه الهجمات مثلت أعراض فشل بلجيكي عميق. فمؤسسات الدول التي تتمتع بحراسة أمنية جيدة وحكم كفؤ ينخر فيها الضعف منذ عقود. وتمزقت بلجيكا بسبب مطالب سكانها المتحاربين والمنقسمين بين الناطقين بالفرنسية والناطقين بالفلمنكية. وعجزت المؤسسات البلجيكية عن معالجة ضغوط الهجرة واختراق تهديد التطرف المتصاعد. وهذا في جوهره فشل في استثمار رأس المال سواء كان مادياً أو بشرياً أو مؤسسياً. ودورة انتخابية بعد أخرى، بدد السياسيون ثروة الدولة في الوصول إلى السلطة. فقد أصبح الإنفاق على الإعانات الاجتماعية أولوية. والناخبون البلجيكيون الذين سمحوا باستمرار هذا يقع عليهم بعض اللوم. وارتفع الدين العام للبلاد ليصل إلى ذروة بلغت 140 في المئة من الإنتاج المحلي الإجمالي. وتقلص الإنفاق العام على الاستثمار أكثر من النصف إلى ما يزيد قليلا على اثنين في المئة من الإنتاج المحلي الإجمالي مقارنة مع خمسة في المئة عام 1980. وفي البداية، كان من الممكن تجاهل التأثيرات لأن بلجيكا كان بوسعها أن تعتمد على رصيدها السابق لكن الرصيد تبدد مع مرور الوقت. ولم نحافظ على البنية التحتية التي لدينا، فالأخاديد في الطرق السريعة تسببت في اختناقات مرورية. وأسقف المتاحف يتسرب منها الماء والأعمال الفنية في خطر. وفي الآونة الأخيرة أغلقت أنفاق في العاصمة لشهور بسبب انعدام الصيانة الملائمة لمدة 20 عاماً. والتمويل كان متوافراً لكل هذه الأولويات لكن السياسيين حولوها إلى جهات أخرى. وزادت مدفوعات الإعانات الاجتماعية- وهي وسيلة مؤكدة للفوز بالانتخابات- إلى 30.7 في المئة من الإنتاج المحلي الإجمالي في عام 2014 صعودا من 23.5 في المئة في عام 1980. وقسمت الأحزاب السياسية البلجيكية الوظائف في القطاع العام فيما بينها. وأصبح التقدم مرهوناً بالعلاقات السياسية وليس بالكفاءة والجد في العمل. بروكسل تعاني من مشكلات، حيث يعبث بالمدينة سكان منطقة «والونيا» الناطقين بالفرنسية والفلاندر الناطقين بالفلمنكية مع عدم القدرة على التوصل إلى طلاق سلمي، لأن كل جانب يدعي أن له حق في العاصمة. وأقسام الشرطة ومجالس المدينة التسعة عشر لم تندمج لأن الجماعة الفلمنكية التي تمثل عشرة في المئة من سكان العاصمة ستستولي بالقانون على نصف المناصب الوزارية في المدينة. ولهذا السبب تظهر مشكلات مثل عدم الكفاءة والافتقار إلى التنسيق. ما جعل الشرطة تستغرق وقتاً طويلاً للقبض على صلاح عبد السلام الذي كان على رأس قائمة المطلوبين في أوروبا لضلوعه في هجمات باريس الإرهابية التي وقعت في نوفمبر الماضي. وظل صلاح لأربعة أشهر في مأمن من أجهزة الأمن البلجيكية في حي مولينبيك في بروكسل. والمستويات المرتفعة من التحويلات الخارجية ونسبة خريجي الجامعات البلجيكيين الذين ينتقلون إلى الاقتصاديات المتقدمة الأخرى يوحي باستنزاف الكفاءات. ومن لا يغادر البلاد يعمل في القطاع الخاص مما يحرم المؤسسات العامة ومنها الشرطة من كفاءاتهم. ومن يعملون في أجهزة الدولة ينتقلون من حالة طوارئ إلى أخرى غير قادرين على التركيز على التحديات طويلة الأمد. ومع رحيل البلجيكيين، وصل المهاجرون غير المتعلمين من شمال أفريقيا الذين استمتعوا بدعم هائل من نظام الرفاهية الاجتماعية البلجيكي المفرط في سخائه، لكنهم يشعرون في الوقت نفسه بالاحتقار، ولذا انكفؤوا على أنفسهم وانعزلوا عن المجتمع. وتشدد كثير من الرجال والنساء. وفشلت الدولة في وقف الهجرة غير الشرعية أو خلق فرص عمل للجيل الثاني من أبناء المهاجرين. لذا أقاموا في أحياء منعزلة مثل مولينبيك التي تعاني من البطالة والجريمة واقتصاد المخدرات المنتعش. صحيح أن تفجيرات بروكسل من الممكن أن تحدث في أي بلد لأن بلجيكا لم تخلق «داعش» لكن يتعين على البلد الأوروبي التوقف عن دفن رأسه في الرمال. التفجيرات نتيجة فشلنا مما جعل بروكسل تنتج عدداً كبيراً جداً من مرتكبي الأعمال الإرهابية في أوروبا. جان مايكل بول: الرئيس التنفيذي لشركة «أكرون كابيتال» في لندن للاستشارات الاستثمارية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»