يُشكل الرابع والعشرون من شهر مارس من كل عام، موعد الذكرى السنوية لليوم العالمي لمرض السل (World Tuberculosis Day)، والذي يحل هذه السنة على خلفية الإحصائيات التي تظهر إصابة 9.6 مليون شخص بميكروب السل للمرة الأولى، ووفاة 1.5 مليون شخص بسبب مرضهم في نفس العام، أو ما يعادل أربعة آلاف وفاة يومياً. ومن بين قرابة عشرة الملايين الذين أصيبوا بالميكروب عام 2014، كان من بينهم مليون طفل، لقي 140 ألفاً منهم حتفهم. وتتوافق هذه الإحصائيات مع الحقيقة الثابتة والمعروفة، باحتلال مرض السل للمرتبة الثانية على قائمة أسباب الوفيات بسبب الأمراض المعدية بين أفراد الجنس البشري، حيث لا يسبقه على هذه القائمة إلا الوفيات الناتجة عن فيروس الإيدز، وما يتسبب فيه من مرض نقص المناعة المكتسبة. وإن كانت هذه الإحصائيات -على سوداويتها- لا تظهر مدى التقدم الذي أحرزه الجنس البشري في مكافحة هذا المرض القديم قدم التاريخ ذاته، والذي يعرف أيضاً بالطاعون الأبيض، حيث يقدر أنه منذ عام 2000، نجحت الجهود الدولية المعنية بمكافحة مرض السل، في إنقاذ حياة 43 مليون شخص. فمنذ عام 2002 وعدد حالات الإصابات الجديدة في انخفاض مستمر، كما أن منذ عام 2005، يشهد العدد الإجمالي للعدوى انخفاضاً ملحوظاً. وتعتبر الصين من أكثر الدول التي حققت نجاحاً في هذا المجال، حيث انخفضت الوفيات بسبب السل بين الصينيين، بنسبة 80 في المئة خلال الفترة الممتدة من 1990 إلى 2010. ولكن رغم هذه النجاحات، ترى منظمة الصحة العالمية أن المعركة لم تنته بعد. وهو ما حدا بالمنظمة الدولية في ذكرى اليوم العالمي لمرض السل هذا العام، إلى مناداة جميع الدول بالاصطفاف والاتحاد معاً ضد السل. وهي المناداة التي جاءت مع دخول العالم مرحلة أو عصر أهداف التنمية المستدامة (Sustainable Development Goals)، والتي يعتبر التخلص من مرض السل بحلول عام 2030، أحد أهم أهدافها. مجموعة الأهداف تلك، والتي تعرف رسمياً بعنوان (تغيير عالمنا: أجندة 2030 للتنمية المستدامة) هي مجموعة من الطموحات والتطلعات، تشمل 17 محوراً تنموياً، تتضمن معاً 169 غاية وهدفاً، حيث تم إدراج هذه الأهداف في الفقرة 54 من إعلان الأمم المتحدة الصادر في 25 سبتمبر 2015، والذي هو عبارة عن اتفاق واسع المدى بين حكومات العالم، بُني على الأسس السابقة المعروفة لأهداف الألفية للتنمية (Millennium Development Goals). وتشمل المحاور التنموية السبعة عشر لأهداف التنمية المستدامة، مواضيع متعددة، وقضايا متنوعة، مثل القضاء على الفقر والجوع، ورفع مستوى وتحسين الرعاية الصحية والتعليم، وجعل المدن أكثر استدامة، ومكافحة التغير المناخي، وحماية المحيطات والغابات. وضمن محاور التنمية المستدامة السبعة عشر، احتل المحور الثالث، أو المحور الصحي، أهمية خاصة، بهدف تحقيق غاية رفع مستوى الصحة العامة لأفراد الجنس البشري، بمفهومه الشامل كحالة دائمة ومتكاملة من التمتع بالصحة البدنية، والعقلية، ومن الأمن والسلام الاجتماعي، وليس فقط الخلو من الأمراض أو من الإعاقة، مع منع الوفيات المبكرة، وخصوصاً الوفيات التي يمكن تجنبها. وفي ظل ملايين الوفيات التي تنتج عن مرض السل – 15 مليون وفاة كل عقد من الزمان- وعشرات الملايين من الإعاقات التي يتسبب فيها، يصبح من السهل إدراك أهمية مكافحة هذا المرض اللعين، وسبب كون القضاء عليه من الأهداف المرجو تحقيقها بحلول عام 2030. كما يحتل مرض السل أهمية خاصة في الوعي الصحي الحديث، في ظل تزايد عدد الحالات المصابة بالميكروب المقاوم للعقاقير الطبية المستخدمة في علاجه، سواء كان الميكروب مقاوماً لنوع واحد على الأقل، وهو ما أظهرت الدراسات أنه موجود في جميع الدول التي خضعت للدراسات الطبية، والمتعدد المقاومة لعدة عقاقير، أو على الأقل أقوى عقارين وأكثرهما فعالية في القضاء على الميكروب، أو الميكروب الذي يحمل صفة فائق المقاومة، والذي يتمتع بقدرات شبه خارقة، تمكنه من الصمود أمام غالبية العقاقير المتاحة في الوقت الراهن، وهو النوع الذي يقض مضاجع الكثير من العلماء والأطباء حالياً. وفي الوقت الذي يعتبر فيه هدف القضاء على السل، تحدياً تنموياً، إلا أنه يطرح نفسه كفرصة تنموية أيضاً. وإن كان هذا الهدف، لا يمكن تحقيقه من خلال وزارات الصحة ونظم الرعاية الطبية فقط، بل من خلال تفعيل أهداف التنمية المستدامة الأخرى. وهو ما يتطلب جهداً مكثفاً، وتعاوناً بين الجهات الحكومية، وبين المجتمعات المحلية، والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني، حيث سيتطلب القضاء على السل، أو على الأقل خفض عبئه المرضي، تدخلات صحية واقتصادية-اجتماعية، وابتكارات واختراقات في الأبحاث الطبية، ضمن منظومة متكاملة تسعى نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة برمتها.