عندما أرادت صفية السهيل، سفيرة العراق الجديدة في العاصمة الأردنية الاحتفال بيوم المرأة، طلبت من الحاجة «أم سعد» أن تدعو لها نساء المجتمع العراقي في عمّان. و«أم سعد» أبعد ما تكون عن الصورة التقليدية لسيدات المجتمع، فهي تغسل وتكوي ملابسها بنفسها، وتبدأ يومها بصلاة الفجر، وبعدها الهرولة داخل حديقة المنزل. وخوف عين الحسود أشيحُ بنظري عنها، منذ هَتَفتُ إعجاباً بهرولتها فتَعثّرتْ. كان عمرها آنذاك 82 عاماً، وختمت لتوها حفظ القرآن. وعمرها الآن 90، وأُرددُ كلما ألتقيها في معارض الفن «سورة الفَلَقْ» متعوذاً «من كل حاسدٍ إذا حَسَدْ». وقدرة «أم سعد» على حفظ القرآن في عمر الثمانين متصلة باللياقة الروحية والبدنية. فلأول مرة في تاريخ علم الأعصاب كشفت التجارب التأثير العصبي للتمارين الرياضية. أجرت التجارب الباحثة الفنلندية «ماريا نوكيا» وأظهرت نتائجها المنشورة في مجلة «علم وظائف الأعضاء» Physiology تأثير الهرولة مسافات طويلة، وتمارين شدّ العضلات على تركيب ووظيفة الدماغ، وزيادة وزنه، وقدرته على إنتاج خلايا جديدة، يتوقف إنتاجها عادة مع التقدم بالعمر. وتقلُ بمقدار الثلث وفيات من يمارسون التمارين الرياضية 150 دقيقة أسبوعياً عمّن لا يمارس أي رياضة، حسب بحث «معهد السرطان» الأميركي و«جامعة هارفرد» حول معدلات حياة نصف مليون شخص فترة 14 عاماً. ولم تُفاجأ «أم سعد» عندما حدثتها عن ذلك، لكنها أصغت باهتمام لحديثي عن «تمارين اللقلق» لحفظ التوازن، أقومُ بها نصف ساعة كل صباح، وتتضمن الوقوف بالتناوب على قدم واحدة، والعدّ إلى الأربعين. وقالت خجلة كطفلة: «آني أعد 12 بَسْ». ولن أفاجأ بتفوقها قريباً، فتحدّي النفس أو الآخرين القاعدة الذهبية في الرياضة، والصحة، والحياة. وكما في التمارين الرياضية تستظهر «أم سعد» بسلاسة سور القرآن الكريم كاملة. وعليّ الصبر إذا سألتها عن آية، فهي تقرأ السورة بالكامل حتى تصل إلى الآية التي أنشدها. حدث ذلك عندما أردتُ أن أستهل مقالة عن كارثة الطائفية بآية من القرآن سألتها عنها، فاستَظهَرَتْ «سورة طه» من أولها، حتى بلغت الآية المطلوبة «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي». و«أم سعد» كبلدها العراق الذي احتضن أدياناً ومذاهب وثقافات عبر التاريخ، ومنها تلقيتُ أول دروسي في الوطنية الإنسانية. فهي من جيل عراقي فتحوا عيونهم على النضال ضد الاستعمار البريطاني، وتطوَّعَتْ وهي في سن الـ15 للعمل ممرضة خلال الحرب العراقية البريطانية عام 1941. وصادف التحاقها بمعسكر الرشيد، يوم قصفته الطائرات البريطانية. وتوّقع صبري مراد، الطبيب المسؤول آنذاك، أن لا تأتي هذه الصبية الرقيقة في اليوم التالي، فلم يهيئ لها بدلة تمريض، لكنها أتَتْ. ومِن «أم سعد» تعلّمتُ أن الوطنية الإنسانية كالرياضة لا نفقدها لأننا هرمنا، بالأحرى هرمنا لأننا تخلّينا عنها، وانظروا ما فعله النظامُ اللا إنساني الهرِمُ بالعراق. الإثنين كان يوم الأم العربية، وكل الأيام أعياد الأم المعمرة، يبتهج بنضارتها وحميميتها أبناؤها، وأحفادها، وأبناء أحفادها، وتلاميذها في «مدرسة السعدون النموذجية» ببغداد قبل سبعين عاماً، وبينهم الأمير رعد بن زيد، حفيد الشريف الحسين، مؤسس العائلة الهاشمية الملكية. وحميمية «أم سَعد» تغزو القلب عندما تقرأ أشعار «مظفر النَوّاب». وفي آخر مكالمة هاتفية معه شكا عجزه عن كتابة الشعر لإصابته بمرض «الباركنسن»، فهاج به الشعر عندما انطلقت تقرأ له أول قصائده «مَرّينا بيكم حَمَدْ، واحنه بقطار الليل، واسمعنه دَك اكهوه، وشَمِّينه ريحة هيل. يا ريل صيح بقهر، صيحة عشك، يا ريل». و«الريل» هو القطار، و«دك الكهوة» طحن القهوة، و«العشك» عشق. ---------------------- *مستشار في العلوم والتكنولوجيا