يتوزّع الأكراد على أربع دول، فبعد الإقليم العراقي الذي يستعد للاستقلال، انفرد قسمٌ من أكراد سوريا بإعلان «فيدرالية روج آفا» حتى قبل أن يصبح لديهم إقليم معترف به، وقد تصبح الطريق ممهّدة لإقليم تركي وآخر إيراني. ورغم أن السيناريوين العراقي والسوري يتشابهان، ولو بمقاربة مختلفة، إلا أن ظروف التجربتين قد لا تفضي إلى النتيجة نفسها. فما كان لأكراد العراق من وجود على الأرض ومحاربة مباشرة للنظام وانتزاع للحقوق وممارستها وتنظيم للموارد وللحياة العامة، لم يكن متوفّراً لأكراد سوريا. وثمة فارق مهم يكمن في أن أكراد العراق كانوا جزءاً من المعارضة، التي عملت على الإطاحة بالنظام السابق وتفاوضوا معها على «فيدرالية» إقليمهم وتوصلوا إلى إثباتها في الدستور، في حين أن أكراد سوريا ظلّوا خارج إطار المعارضة، وحافظوا على علاقة وثيقة مع النظام ومخابراته، كما أقاموا علاقة مع إيران، وأخيراً تكشّف دعمٌ روسي خاص لهم بالتزامن مع تلقيهم السلاح والإسناد الجوي من الولايات المتحدة لقاء محاربتهم تنظيم «داعش». من كل المناطق والفصائل المقاتلة في سوريا بدت المنطقة الكردية، وكأنها ملتقى القوى الرئيسة الخارجية المتدخلة، الولايات المتحدة وروسيا وإيران، ومعها نظام دمشق، وسط غضب تركيا وتوترها، واستياء من جانب الدول التي تدعم المعارضة. ف «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، وهو الفرع السوري ل «حزب العمال الكردستاني» المناوئ للحكم التركي، وجد في انتشار «داعش» على تخوم مناطق سيطرته فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وما لبثت أن تأكّدت عندما بادر التنظيم إلى مهاجمة عين العرب/ كوباني أواخر 2014 وانبرت «وحدات حماية الشعب»، وهي مليشيا «حزب الاتحاد»، لمواجهته. عمل هذا الحزب مع الأميركيين، استغلّهم للتسلّح والتموّن والتموّل، وكذلك لتجسيد أجندته القومية، واستغلّوه لحاجتهم إلى قوات على الأرض لمحاربة «داعش» غير مبالين بتعاونه المستمر مع أجهزة نظام بشار الأسد، ولا بتنسيقه المستمر مع الإيرانيين الذين يدعمون الحزب الأم (العمال الكردستاني) لمناكفة تركيا. وقبل التدخّل الروسي كان ممثلو «حزب الاتحاد» بين من حرصت موسكو على دعوتهم إلى الملتقيات التي نظّمتها لما سمّتها «معارضة»، وبعد التدخّل أصبح هذا الحزب في سياق مصالح موسكو في سوريا بل في صلبها، ولعلها هي التي أقنعته، تمويهاً لطابعه الكردي البحت، بالتقارب مع «قوى سوريا الديموقراطية»، وهي تتشكّل من أفراد ومجموعات متنوّعة الهويّات يحظون أيضاً بقبولٍ من الأميركيين، وكذلك من النظام والإيرانيين. ألّحت موسكو لضمّ «حزب الاتحاد» و«قوى سوريا الديموقراطية» إلى الكيان الموحّد للمعارضة الذي انبثقت من مؤتمر الرياض في النصف الأول من ديسمبر 2015، ولا تزال تصرّ، رغم أن أكثر من مسؤول قيادي في هذا الحزب أقرّ علناً باستمرار التعامل مع النظام، ما يعني عملياً أنه لا ينتمي إلى المعارضة، وليس مستعدّاً بالتالي للرضوخ لاستراتيجيتها التفاوضية أو لتبني مطالبها، بل إن المعارضة طالبت بضمّه إلى وفد النظام الذي استبعد الفكرة كليّاً، فهو يتعامل معه لكنه لا يتبنّاه. وفي المرّتين اللتين قصد فيهما وفدا النظام والمعارضة جنيف للبحث في إطلاق مفاوضات بينهما بادر الحزب الكردي إلى عقد مؤتمر موازٍ في شمالي سوريا، ففي أوائل فبراير طرح مؤتمره فكرة الفيدرالية كشكل للنظام المقبل في سوريا، وهذه أعلنها كمشروع سياسي. وبين المرّتين كان نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف أطلق «بالون اختبار» عندما رمى في تصريح له عبارة «ربما تصبح سوريا جمهورية فيدرالية» قبل أن يضيف «إذا اتفق عليها السوريون» في المفاوضات. ومع تبنّي الأكراد لهذا التوجّه أصبح واضحاً أن موسكو هي التي همست به في آذانهم. صحيح أن موقفاً أميركيا استباقياً أكّد «عدم الاعتراف بالفيدرالية ما لم تتم مناقشتها والموافقة عليها» (في المفاوضات)، وأن النظام والمعارضة رفضاها جملة وتفصيلاً، إلا أنها كما يبدو ستكون محور المحادثات المقبلة بين الأميركيين والروس، خصوصاً أن المعارضة قدّمت اقتراحاً باعتماد «اللامركزية» الذي قد يعتبر قريباً إلا أنه يختلف جوهرياً، سواء في مكانة «الحكومة المركزية» وصلاحياتها أو في وضعية «الأقاليم» وحدود استقلاليتها، بل يختلف خصوصاً في تأكيد وحدة سورياً شعباً وأرضاً، وهو ما لا يزال هدفاً كرّسه القرار 2254 بغضّ النظر عن الجدل على واقعيته بعد الصراع الدامي المروّع الذي تلوح الآن فرصة ولو هشّة لإنهائه.