بوفاة المثقّف السوري جورج طرابيشي قبل أسبوعين في باريس، تستعيد الذاكرة أسماء قافلة من المثقفين السوريين الذين كاد يطويهم النسيان، ممن توزعت أعمالهم، المكتوبة أو المترجمة، بين الفلسفة والفكر السياسي والأدب وعلم النفس. يكفي كتعداد لبعض الأسماء، أن سوريا الخمسينيات والستينيات عرفت سامي الدروبي وجمال أتاسي وسامي الجندي وبديع الكسم، قبل أن تعرف في الستينيات والسبعينيات ياسين الحافظ وإلياس مرقص وصادق جلال العظم وجورج طرابيشي، وهذا من دون الإتيان على ذكر الأدباء والشعراء والفنانين. ولم يكف السوريون مذّاك، في بلدهم نفسه كما في المهاجر والمنافي، عن إنتاج المثقفين والكتاب والمبدعين الذين تجاوز تأثيرهم السوريين إلى عموم العرب. لكن واحدنا بات بحاجة إلى إجهاد ذاكرته كي يتذكر هؤلاء ويستعيد أسماءهم. ذاك أن «سوريا الأسد» لم تتسع على مدى سنوات مديدة لاسم آخر غير «السيد الرئيس»، ومن بعده نجله الذي ورثه. وما يتبدى مدهشاً للوهلة الأولى أن كثيرين من هؤلاء المثقفين كانوا هم أنفسهم بعثيين، أو قريبين من حزب «البعث»، إلا أنهم خالفوا المجموعة الحاكمة في هذا التأويل أو ذاك التفصيل فاستحقوا النبذ والتجهيل، وأحياناً استحقوا القتل على ما حصل لصلاح الدين البيطار، أحد مؤسسي الحزب، الذي اغتيل في باريس. لكن تذكر تجربة ستالين وقسوتها مع المثقفين الشيوعيين قبل سواهم كافٍ لتبديد دهشة الوهلة الأولى. ذاك أن الزعيم المطلق، بحسب أنظمة الاستبداد، هو أيضاً المثقف المطلق الذي لا مكان إلى جانبه لمثقف، كي لا نقول لنقد. أما الشرعية الثقافية الوحيدة فتلك المستمدة مما يتبرع به الزعيم والتي تتيح لصاحبها، في أحسن أحواله، العمل موظّفاً مطيعاً في وزارة الإعلام أو وزارة الثقافة. وما يقال في سوريا البعثية يقال في عراق صدّام حسين، حيث لف الصمت والتجهيل أسماء فنانين تشكيليين كجواد سليم وشاكر آل حسن، ومهندسي عمارة كمحمد مكية ورفعت الجادرجي، وشعراء كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة. ذاك أن صدام، مثله مثل «ماو تسي تونج» أو «كيم إيل سونج»، هو وحده من يعرف كل شيء ويحتكر الإبداع على أنواعه. ومع أن القمع في مصر الناصرية ظل أقل حدة وقسوة بالمقارنة مع دولتي «البعث»، وهذا سر بقاء عدد من كبار المثقفين والمبدعين ممن مارسوا نقديتهم على نحو مبطّن ومداور، فإن دولة عبدالناصر ضاقت هي الأخرى بمدرسة علم النفس لمصطفى صفوان وزملائه كما بالمدرسة السريالية لجورج حنين ورفاقه. وتجد اليوم في الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، ولكنْ أيضاً في أوروبا الغربية، جيشاً من الأكاديميين والمبدعين الإيرانيين الذين باشروا مغادرة بلدهم على نطاق واسع منذ قيام الثورة الخمينية في 1979. وواقع الحال أن ثمة علاقة لا تخطئها العين بين مدى اعتناق دولةٍ ما لإيديولوجية حاكمة ودرجة الطرد والنبذ للمثقفين الذين يطلبون الحرية شرطاً لعملهم، وهي بالتعريف حرية حيال كل إيديولوجية رسمية حاكمة. وإنما لهذا السبب تحديداً يغدو من المفهوم أن تشهد ألمانيا النازية إحدى أكبر الهجرات الثقافية التي عرفها التاريخ الحديث، إن لم تكن الأكبر بإطلاق. وليس بلا دلالة أنّ أولئك المثقفين الذين اتجهوا إلى الولايات المتحدة بما أفقر الحياة الثقافية الألمانية وحصرها في ترّهات هتلر وجوبلز، هم الذين تولوا إخصاب الثقافة الأميركية بعد كسر محليتها وعزلتها القارية وفتحها على عوالم الثقافة الأوروبية. فغني عن القول، بناء على هذه التجربة وعلى تجارب أخرى كثيرة تماثلها على نطاق أضيق، أن المستبد إذ يدمر الحياة الثقافية فإنما يساهم في تدمير بلده ذاته.