نبدأ من روسيا التي قررت سحب الجزء الرئيس من قواتها من سوريا فجأة، وإنْ كانت أميركا هاتفت روسيا منذ مدة وناقشت الأمر مع بوتين، فلا مفاجأة ولا يحزنون، فالفجاءة كعنصر في السياسة أمر غير وارد لأنها تعني الخسارة من أول وهلة، فما حدث فجأة في سوريا تم تبريره بأن هذه القوات قد حققت أهدافها بدرجة كبيرة. والسؤال: كيف نقيس تحقيق هذه الأهداف الروسية في سوريا سياسياً وميدانياً، ثم ما هي الأهداف التي تحققت فعلاً؟ و«هل داعش» تقهقرت وخنست وانتهت، أم أن «المعارضة المعتدلة» قد تم التخلص منها وكتم أنفاسها وقصقصت أجنحتها المقاومة، أم أن تلك المفاجأة تعني التمهيد لدخول قوات التحالف الإسلامي إلى هذه الساحة المشتعلة والمشبكة مع كل الفصائل المعارضة وليس «المعتدلة» منها فقط. مرحلة مستفزة جديدة وقعت على رأس الشعب السوري، رسمياً أعلن المعلم أن الأسد خط أحمر، مع عدم وجود أو تخيل خطوط ملونة أخرى وفق رؤية النظام، وهو ما حدا بالمبعوث الأممي لإطلاق دوي يوحي بأن العشرة أيام المقبلة إنْ لم تخرج من رحمها حكومة وحدة وطنية، فإن القتال الذي سيحتدم مجدداً قد يفوق ما حدث خلال الأعوام الخمسة الماضية. المعارضة السورية متفائلة من انسحاب القوات الروسية، ولكنها في الوقت نفسه مُصرة على تنحي الأسد طوعاً أو كرهاً أو قتلاً، فلا خيار آخر لديها. فالمطلوب خلال الأيام المقبلة هو الشروع في الانتخابات بعد ثمانية عشر شهراً من بدء المحادثات، وهو ما أكده دي ميستورا قائلاً، إن «القضية الأولى على جدول الأعمال هي حكومة شاملة جديدة يتبعها دستور جديد وانتخابات»، وعبر عن أمله في «تحقيق تقدم في النقطة الأولى على الأقل خلال المرحلة الأولى من المحادثات». ولم يعجب هذا المقترح الذي يراد تنفيذه خلال فترة السنة ونصف سنة القادمة المعلم عندما شدد على أن المبعوث الأممي إلى سوريا «لا يحق له اقتراح جدول أعمال.. هذا ما يجب أن يتم التوافق عليه بين المتحاورين، لأن الحوار بالأساس سوري سوري وبقيادة سورية». ومن جانب آخر، وضعت المعارضة هذا الكلام وغيره الصادر عن المعلم في خانة ما «لا قيمة له»، وأنه «يدق المسامير في نعش مفاوضات جنيف». وأمام هذا السجال السابق لأوانه، يعلق دي ميستورا على هذا الوضع بأن بديل عدم نجاح المفاوضات هو العودة لاقتتال أسوأ مما كان. ووسط هذه الضبابية القاتمة للمشهد السوري، فإن بعض المحللين ذهبوا إلى أن المصالحة الوطنية، وهي الحلم المقبور حتى الساعة، قد تتحقق خلال أيام «جنيف» العشرة إذا قامت أميركا وروسيا بتقديم رؤية جديدة. ويوضح أحدهم أن المؤتمر بدأ فقط لأن موسكو وواشنطن أرادتا ذلك، معتبراً أن الطرفين أدركا مؤخراً أن حجر العثرة الذي أعاق التوصل لحل مقبول ومتفق عليه في الجولتين السابقتين، وهو مصير الأسد، لم يعد يستحق عناء استمرار الحرب. لقد تأخر الجميع في إدراك أن الحرب التي تجري بين روسيا والغرب بالوكالة قد خرجت عن السيطرة، خاصة بعدما تعرضت دول الاتحاد الأوروبي لموجة هائلة من المهاجرين والنازحين بسبب المعارك الدائرة هناك، وهو ما روج له كيري منذ نهاية عام 2015 عندما قال إن واشنطن وحلفاءها لا يسعون لتغيير النظام في سوريا. ويرى البعض الآخر أن روسيا وأميركا ينبغي عليهما فرض حل سياسي على جميع الأطراف المختلفة في مباحثات جنيف الحالية، لأنهما الطرفان المسؤولان عن إشعال الصراع ووصول الأمر إلى ما نراه اليوم. وكل هذا الجدال الأكثر من الساخن سياسياً والحمم التي تصب فوق رأس الشعب السوري حتى بعد الانسحاب الروسي المرتقب، لم يتحدث فيه أي طرف عن حل ناجز للحسم ضد «داعش» وكسب «الحرب ضد الإرهاب» الذي لم تسلم منه دولة، ولو بدرجات متفاوتة. وما زال هو شماعة النظام الذي تطرّف في إبرازه على العالم أجمع كذريعة لاستمراره في الحكم حتى بعد جنيف ثلاثة، وهذا المتن السياسي الأهم لم يأخذ أي حيز من النقاش، ويبقى السؤال أخيراً: ما هو الوجه الآخر المنتظر بعد المفاجأة الروسية؟