حاولنا في المقال الماضي «التوازن المفتقد في الحوار المجتمعي» تشريح ظاهرة التردي في أداء النخب المصرية سياسية كانت أو ثقافية أو إعلامية. وقلنا إنه مما يُدل على هذا التردي الانصراف عن الاهتمام الجدي بالأمور الكبرى للوطن، وخصوصاً في المرحلة الحاسمة بعد 30 يونيو التي شهدت سقوطاً مدوياً لجماعة «الإخوان المسلمين» الإرهابية وبداية عصر سياسي جديد يقوم على أساس الأهداف الأصيلة لثورة 25 يناير وأبرزها تحقيق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والحفاظ على الكرامة الإنسانية، وقد شهد الوطن تحقيق الخطوة الأولى من خارطة الطريق التي أعلنت في 3 يوليو، وهي إعداد دستور جديد والخطوة الثانية وهي انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد تم انتخاب الرئيس «السيسي» بمعدلات قياسية، وآخر هذه الخطوات هي انتخاب مجلس نواب جديد. وكان المفروض بعد ذلك أن تعمل كل أطراف النظام السياسي، ونعني رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنخب السياسية والثقافية على الإسهام الإيجابي في رسم برامج التنمية المستدامة التي ستوضع وفقاً لرؤية استراتيجية متكاملة، وقد وجهت بعد الأصوات السياسية النقد للرئيس «السيسي» على أساس أنه بدأ –باعتباره قائداً للدولة التنموية الجديدة- تنفيذ مشروعات قومية كبرى مثل مشروع قناة السويس وزراعة 3 ملايين فدان، وكذلك إنشاء عاصمة جديدة، وذلك بدون أن يعلن عن الرؤية الاستراتيجية للدولة، والتي ستنفذ فيها هذه المشروعات. وها نحن اليوم -وخصوصاً بعد أن أعلن الرئيس «السيسي» يوم 2 مارس الماضي الرؤية الاستراتيجية لمصر 20-30- أمام موقف جديد يستدعي تضافر كل أطراف النظام السياسي على المناقشة النقدية المسؤولة لهذه الرؤية وأهدافها ووسائلها، مع التركيز على كفاءة هذه الاستراتيجية التنموية في مجال إشباع الحاجات الأساسية للجماهير العريضة. ومن الأهمية بمكان أن نطالع التقديم الذي استهل به الرئيس «السيسي» وثيقة رؤية مصر 20-30. يقول الرئيس «يمر الوطن بمرحلة فارقة من تاريخه العريق تحتم علينا جميعاً كمصريين مخلصين له عاشقين لترابه، متطلعين لرؤيته بين مصاف الدول المتقدمة، وفي المكانة الدولية التي يستحقها أن نكون يداً واحدة رئاسةً وحكومةً وبرلماناً وشعباً لنرسم معاً حاضراً باسماً تستحقه الأجيال الحالية ومستقبلاً مشرفاً وحياة أفضل للأجيال القادمة، فلقد شاهد العالم أجمع كيف تلاحم هذا الشعب العظيم في ثورتين عظيمتين، مطالباً بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية. وبالفعل بدأنا فعلاً هذه المسيرة وأوشك الوطن على تنفيذ جميع استحقاقات خارطة طريق المستقبل التي توافقت عليها جميع القوى الوطنية، فقد شكلنا معاً دستوراً متكاملاً وأجرينا الانتخابات الرئاسية بنزاهة وشفافية شهد لها القاصي والداني وتم انتخاب البرلمان الحقيقي للثورة المصرية». وينبغي أن ألفت النظر في هذه الفقرة المهمة التي بدأ بها الرئيس «السيسي» تصديره للوثيقة بأنه ركز على مفهوم «التنمية المستدامة» لأنه ركز على حق الأجيال القادمة في حياة أفضل. ومن ناحية أخرى أكد على أهمية تعاون كل أطراف النظام السياسي في تحقيق التنمية: الرئاسة والحكومة والبرلمان والمجتمع ككل. استراتيجية التنمية المستدامة رؤية «مصر 20-30» تم وضعها على مدار عامين متواصلين، والتي شهدت صياغتها –كما قرر الرئيس في تقريره- كانت ثمرة تعاون ممثلي الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والأكاديميين والخبراء لتحديد الملامح الأساسية لمصر المستقبل. وفي تقديرنا أن صدور هذه الوثيقة حدث تاريخي بالغ الأهمية، وذلك لأنه سبقتها من قبل جهود ممتازة قامت بها فرق بحثية وطنية أبرزها المخطط العمراني الذي أشرف عليه الدكتور فتحي البرادعي وزير الإسكان السابق، ووثيقة «مصر 20-30» التي أشرف على إعدادها المرحوم الدكتور محمد منصور المدير السابق لمركز الدراسات المستقبلية التابع لمركز دعم القرار بمجلس الوزراء، ولكن كلتا الوثيقتين لم يتح لهما التفعيل الفعلي لأسباب متعددة. ومن هنا تأتي الأهمية القصوى لاستراتيجية التنمية التي أعلنها «السيسي» لأنها تعد أول رؤية استراتيجية تتبناها الدولة بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو. ومن هنا ضرورة أن تناقش الوثيقة مناقشة نقدية مستفيضة من قبل الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والنخب السياسية والثقافية وتجمعات النشطاء السياسيين. وينبغي أن يكون هدف هذه المناقشة النقدية التأكد من سلامة التوجهات التنموية للوثيقة، وقدرتها على تحقيق المعدلات المرغوبة للارتفاع بجودة الحياة في المجتمع المصري في ضوء معايير ومؤشرات الأداء المتضمنة في الوثيقة. ولنأخذ -على سبيل المثال- الرؤية الاستراتيجية للعدالة الاجتماعية حتى عام 2030. وتقرر الوثيقة بهذا الصدد «تهدف هذه الرؤية الاستراتيجية إلى وضع بعض المحددات على التوجه الاقتصادي للدولة لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية، كما تحدد أيضاً دور الدولة، وكذا دور كل من القطاع الخاص والمجتمع المدني في تحقيق العدالة الاجتماعية، وآليات تحقيق التوازن بين العمل الخيري، والعمل التنموي، وبين أولويات الحاضر والاعتبارات المستقبلية». وحددت الوثيقة الأهداف الاستراتيجية للعدالة الاجتماعية في عام 2030 في تحقيق ثلاثة أهداف مترابطة؛ الهدف الأول تعزيز الاندماج المجتمعي، وتعريفه بأنه «رفع مستوى الإنتاج المجتمعي، وترسيخ شراكة فعالة بين شركاء التنمية والدولة والمجتمع والقطاع الخاص». والهدف الثاني تحقيق المساواة في الحقوق والفرص، وتعريفه «تحفيز فرص الحراك الاجتماعي من خلال نظام مؤسسي يحقق المساواة في الحقوق والفرص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية». والهدف الثالث تحقيق الحماية للفئات الأولى بالرعاية، وتعريفه «بضمان عدالة التوزيع وتقليص الفجوات الطبقية من خلال مساندة شرائح المجتمع المهمشة، وتحقيق الحماية للفئات الأولى بالرعاية». ويلفت النظر حقاً اهتمام الوثيقة بالنص على ثمانية مؤشرات كمية دقيقة لقياس التقدم في تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية. هذه الوثيقة التاريخية ألا تستحق أن تتفرغ الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والنخبة السياسية بوجه عام لمناقشتها مناقشة نقدية بدلاً من المبادرات العقيمة التي أعلن عنها مؤخراً عن «جمعية لتفعيل الدستور»، وأخرى «لصنع بديل مدني»؟ أم أن البحث عن أدوار سياسية -حتى لو كانت هامشية- هي الهاجس الأساسي للنخبة السياسية التي استقالت من أداء وظائفها التنموية الأساسية؟