إذا كانت الأزمة السورية قد بدأت عام 2011 نتيجة عدم الاستجابة لدعوات القيام بإصلاحات لشؤونها الاقتصادية والسياسية وأخرى كثيرة فيها، فإن المطروح راهناً، عام 2016، يتمثل في الإجابة عن هذا الإخفاق بصيغة تفكيكها وتحويلها كومة من المناطق المتداخلة المتجاورة بعد سلخها بعضها من بعض. والطريف أن البعض من الخارج والداخل راح ينتج من المسوغات يجعل عملية التقسيم أمراً ممكناً وسهلاً، بل مطلوباً باسم الحرية والحداثة، كما باسم مقتضيات التقدم التاريخي أمام شعوب ومذاهب وطوائف «أن لها أن تنطلق دون قيود». ويلجأ أصحاب الشأن، في حقل الاستراتيجية السياسية خصوصاً، إلى وضع الشعب السوري أمام نمطين اثنين من التقسيم، هما «الاتحادي الفيدرالي»، وعلى المعنيين أن يختاروا المناسب ها هنا. وإذا عدنا إلى انطلاقة الأحداث في سوريا عام 2011، وجدنا أن المسألة ظهرت في صيغة الدعوة إلى إصلاحات هنا وهناك من قطاعات المجتمع السوري، بعد مرور ما يتجاوز نصف قرن من الزمن على أيدي من يعلن استراتيجيته الوحدوية العربية، وتعني «حزب البعث العربي الاشتراكي»، وهذا بذاته يتمثل في مفارقة شديدة الاضطراب تقود إلى ما كان يحارب تحت راية «استراتيجية الانفصال والانفصالية»، خصوصاً منذ إخفاق الوحدة بين سوريا ومصر في أواخر العقد السادس من القرن العشرين، وتحت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والحكم الذي كان على رأسه جمال عبد الناصر في مصر. والملفت، بإشارة قاسية إلى حدود قصوى، أن سقوط الوحدة بين سوريا ومصر وتدمير سوريا، الذي يفتح الباب واسعاً أمام الانقسام والتفكك في المرحلة الراهنة، يلتقيان في محور واحد هو ذاك الذي ظهر في أواخر الوحدة المذكورة: إنه الديكتاتورية السياسية والفساد والإفساد الاقتصاديان، ومن ثم غياب الديموقراطية، بما في ذلك مبدأ التداول السلمي للسلطة، لقد سقطت الوحدة المذكورة، مع سقوط القوة التي كان عليها أن تحميها، نعني سقوط ما كان بدرجة أو أخرى، قائماً على الحكم الديموقراطي، وكانت النتيجة هي التالية: لقد افتقدت «الوحدة» ما يدعمها، فذهبت أدراج الرياح بمؤسسيها وقادتها. إن أصحاب القرار الروسي ومعهم سوريون ولبنانيون وعراقيون ويمنيون هم الذين أمسكوا بقرار تقسيم سوريا، أو الرغب في ذلك. ولم يجربوا كيف سيكون الحال حين تكون الديموقراطية السياسية قائمة، ولذلك، هم يعتقدون أن الحفاظ على سوريا ديمقراطية سيكون خطراً على مصالحهم. كان البريطانيون قد فعلوا مع الفرنسيين ما أنتج معاهدة «سايكس بيكو»، التي بمقتضاها يجب تقسيم سوريا، العملاق الحضاري، وآخرون اليوم يرون أن المشروع الوطني والقومي الديموقراطي لوحدة سوريا إنما هو صمام أمان في مواجهة النزعات التقسيمية، بتلوناتها الطائفية والاثنية والدينية أولاً، وهو الذي سيكون دعماً هائلاً للقضية القومية العربية، ثانياً والشيء اللافت أن وضع سوريا الراهن، الذي يتطلب توحيداً لقواها مع القوى العربية في مواجهة النزعات التقسيمية، نقول، إن ذاك هو بالذات ما يحتاجه العرب راهناً في نطاق التأسيس لبدايات أولية، على الأقل، للإسهام في المشروع النهضوي العربي العمومي، وكذلك - وهذا مهم - من أجل حماية كيانها الوطني القومي. أما ما وضعه البعض من أسس للقول بالأخذ بواحد من الخيارين المطروحين بالنسبة إلى التقسيم الفيدرالي، فهذا على الأقل، يحافظ على سوريا كلاً راهناً ومستقبلاً، مع بناء نظام مدني ديموقراطي فيها. وما نحسب أن إضافة التقسيم الاتحادي إلى التقسيم الآخر، أي الفيدرالي لم يذكر، إلا من باب ذرّ الرماد في العيون. وعلى كل حال، إن الأمر سيحسم بعمل سياسي هائل، يخرج قضية الوجود العربي من حاضنة العصر الجاهلي. أما البديل عنه فهو تساقط الدول العربية، الواحدة تلو الأخرى. وهذا هو السقوط التاريخي.