أتساءل أحياناً عندما يهدأ صخب الحياة، هل للتقدم العلمي حد أو نهاية؟ وهل للتكنولوجيا والمخترعات والاكتشافات من قمة أو ختام، أم أن التقدم العلمي كالأعداد والأرقام، لا آخر لها؟ الأعقد من هذا كله، نجاح بعض المفكرين أو الروايات في التنبؤ بالأحداث والمخترعات ونوعية الحياة بل والأنظمة السياسية القادمة بعد ثُلث أو نصف قرن.. ومنها مثلاً بعض أعمال الروائي المجري «كافكا» وكتب البريطاني جورج أورويل، صاحب الكتابين الذين فضحا فكرياً وسياسياً كل الديكتاتوريات والأنظمة القمعية، وهما رواية «1984» ورواية «مزرعة الحيوان»، وقد حظي الكتابان بتوزيع واسع خاصة بعد ترجمتهما وانتشارهما في بلدان الكتلة الاشتراكية، قبل تفكك ذلك المعسكر، مع انتهاء الحرب الباردة. ومن عجب أن هذا الكاتب لم يعش طويلاً 1903 - 1950، ولكنه ظل يحظى بتأثير واسع بعد وفاته، والحقيقة أنه عاش نصف عمر الفيلسوف البريطاني الكبير برتراند راسل، الذي عاش نحو قرن كامل لو امتد به العمر عامين فقط (1872 - 1970)، ومن الذين اشتهروا في هذا المجال كاتب إنجليزي لا يقل مكانة عن جورج أورويل، وهو الدوس هكسلي (1894 - 1963) الذي كتب عام 1932 كتاباً بلغ القمة في النجاح بعنوان «عالم جديد شجاع» ضمن نظرة تصويرية كاملة للمستقبل، ولا غرابة فهو أحد أبناء أسرة بريطانية ثقافية معروفة، وحفيد "توماس هكسلي"، رفيق عالم الأحياء تشارلز داروين والمدافع الصلب عن نظريته في التطور. يلفت نظري كثيراً وقد دخلنا منذ قريب عام 2016 الجديد، كثرة التنبؤات السياسية والشخصية التي تصدر عن بعض المنجمين وغيرهم كل عام، وأعجب أن الناس ينسون كل هذه التنبؤات مع انقضاء الأسبوع الأول من العام الجديد، ولكن التوقعات والتنبؤات العلمية في المجلات الرصينة تستحق العودة والقراءة والتأمل، بسبب صحة بعض ما جاء فيها، رغم الفارق الزمني واختلاف الظروف. الكثير من التجديد الأدبي والإبداع الفني بدأ بالتنبؤ والتوقع، ولهذا تمرد الشعر المعاصر على القوالب القديمة، وغيرت مدارس الفن الحديث الأساليب الكلاسيكية الموروثة، وهكذا صار هذا الأدب والفن هو ما يعبر عن مشاعر إنسان القرن الحادي والعشرين، بعد جهد جاهد، قاده شعراء وفنانو القرن التاسع عشر والعشرين. وهكذا التحليلات السياسية والاقتصادية التي تحاول دراسة التوجهات المستقبلية. صدر في دمشق عام 2000 كتاب بعنوان «العالم عام 2020» من تأليف هاميش ماكري وترجمة نعمان علي سليمان وردت في مقدمته المقارنة التالية بين الهند والصين، ولك الحكم على صحتها بعد نحو ربع قرن من وضع الكتاب بالإنجليزية عام 1991:«وحتى لو استطاعت الهند والتي هي ثاني أكبر أمة في العالم من حيث عدد السكان، أن تنعم بأداء اقتصادي أفضل في السنوات الثلاثين القادمة أكثر مما فعلت في السنوات السابقة، فإن من غير المحتمل أن تكون قوة اقتصادية عالمية كبيرة بحلول عام 2020، وبالمقابل فإن من المحتمل أن تصبح الصين قوة اقتصادية عالمية كبيرة بحلول عام 2020 وبالمقابل فإن من المحتمل أن تصبح الصين قوة اقتصادية على الرغم من أن تقدمها قد يتبين أنه أكثر تفاوتاً مما يفترض الكثير من الناس عام 1994». في العدد 113، أبريل 1968، أي قبل نحو نصف قرن، نشرت مجلة العربي في زاوية «مسائل ومشاكل وأحداث» تصوراً عن وضع العالم سنة 2000، وكان ذلك العام نهاية القرن العشرين وذا وقع سحري في النفوس كما يذكر الكثير منا، فماذا قالت المجلة؟ «سيلعب العلم والتقنية الدور الأساسي في عالم الغد.. عالم ما بعد ثلاثين عاماً أو أكثر أو أقل.. فالمستقبل للعلم والعلماء». وأضاف العربي: فيما يلي بعض ما سيحققه لنا العلم في سنة 2000، كما تنبأ بعض العلماء: مياه البحر المالحة ستتحول إلى مياه عذبة بتكاليف زهيدة. والإخصاب سيصبح من السهل التحكم فيه بوسائل فعالة وبأقل النفقات. والترجمة إلى لغات شتى ستصبح من مهام الأجهزة التي أسموها بالعقول الإلكترونية. وعمليات زرع الأعضاء التي تنقل من أجسام ميتة إلى أجسام حية، أو الأعضاء الصناعية من البلاستيك ستصبح أمراً سهلاً ميسوراً. والتنبؤات بحالة الطقس سيعتمد عليها مائة في المائة. وتغيير الشخصية سيتمكن العلماء من استخدام عقاقير، لا تدخل المخدرات في تركيبها لتغيير شخصية الإنسان. والذكاء، سيتسنى للشخص الغبي أن يتحول إلى شخص ذكي بفضل عقاقير جديدة. ومتوسط عمر الإنسان سوف يزداد بنحو 50 عاماً بفضل عقاقير جديدة سيتوصل إليها العلماء. والأعمال التي لا تحتاج إلى تفكير ستقوم بها الحيوانات المدربة بدلاً من الإنسان. وسيتمكن العلم من توفير 20% من غذاء العالم من استزراع المحيطات. وحياة اصطناعية بدائية ينجح العلماء في تحقيقها في المختبرات. «وهذه كلها ليست مجرد تنبؤات»، أكدت المجلة «ولا أحلام راودت خيالاً مفكراً، كما حدث لألدوس هكسلي عندما وضع كتابه «عالم جديد شجاع» منذ أكثر من أربعين عاماً، وإنما هي خلاصة أفكار علماء يمارسون العلم وبحوثه اليوم في المختبرات»، وبالطبع، فنحن نعايش اليوم تحقق بعد هذه التنبؤات. خليل علي حيدر* *كاتب ومفكر- الكويت