هل فكر الجماعات المتطرفة هو الفكر الإسلامي الصحيح؟ طبعاً لا علاقة لتلك الجماعات المتطرفة المنحرفة بالفكر الإسلامي الصحيح. ومع هذا قد تبدو الإجابة صعبة على هذا السؤال بالنسبة للبعض، من الناحية النظرية البحتة، وذلك لسببين: الأول أنه يصعب التعرف إلى فكر الجماعات الدينية تعرفاً علمياً دقيقاً نظراً لأن القدر الضئيل المعروف عن هذا الفكر المتطرف لم يطبع طبعات محققة حتى يمكن التحقق من مصادره ثم يقرأ من طرف المتخصصين للحصول على وجهة نظر متكاملة فيه، إن كانت فيه أصلاً وجهة نظر متكاملة. والثاني أن مفهوم الفكر «الصحيح» نفسه مختلف عليه، لأن الفكر عموماً نتاج التاريخ، وحصيلة عدد من القوى السياسية والاجتماعية المتصارعة كما هو واضح في الفرق الإسلامية القديمة، فكل منها تدعي أنها شرعية، وتزعم أنها تنتسب إلى الإسلام! فكلمة «الصحيح» إذن مرتبطة برأي الذات في ذاتها، دفاعاً عن النفس، ويكون المحك في النهاية ليس إلى «الصحة النظرية» أو «الخطأ النظري» بل لمن بيده الأمر. وربما يؤيد ذلك ما يعرف في العلوم الإنسانية باسم «نظرية التفسير» سواء تفسير النصوص أو تفسير الظواهر، وهي جزء من نظرية الفهم أو المعرفة بوجه عام. فلا يوجد معنى موضوعي للنص مستقل عن القارئ، أو الفاهم، يدركه الجميع في حياد تام وبموضوعية كاملة. فامتلاك الحقيقة المطلقة ادعاء ووهم إنساني لمن يدعيه، وهو نوع من الركون إلى اعتبار فهمي الخاص هو «الموضوعي» وفهم الآخرين هو «الذاتي»، وبالتالي يكون فهمي هو «الصحيح» وفهمهم هو «الباطل». فما دام النص مكتوباً في لغة طابعها قابلية التأويل لما ورد في النقل والرواية، وطالما أن قدرة الإنسان محدودة بظروفه النفسية والاجتماعية والتاريخية، فإن تأويل النص يكون أحياناً ضرورياً للفهم. والتأويل ذاته قد يعكس ظروف الإنسان ووضعه الاجتماعي عن طريق إسقاطها على النص فيظن الإنسان أنه فهم النص «الموضوعي» في حين أنه قرأ نفسه في الحقيقة، وعبّر عن احتياجاته وفهم ما توهم أنه هو فقط الفهم «الصحيح». ويحدث الفهم «الصحيح» عندما يتطابق الموقفان الحيان، الموقف الأول الذي خرج منه النص، والموقف الثاني الذي يوجد فيه الإنسان. وهذا التطابق بين الماضي والحاضر هو الذي يجعل الفهم ممكناً. وبالتالي كان فهم النص في الواقع مجرد قراءة الحاضر في الماضي أو التعرف على الماضي في الحاضر. فالحاضر هو الذي يعطي الماضي معناه. وإنما يرجع الخلاف في التفسير أساساً إلى خلاف في المواقف الحاضرة النفسية والاجتماعية والسياسية والتاريخية. ولما كان موضوع العقائد في المجتمعات التقليدية من أقوى العوامل في الحراك الاجتماعي فسرعان ما يتم استخدامه من بعض القوى الاجتماعية والسياسية. كل منها يسقط أهدافه على النص ويقرأها فيه ويزعم انتماءها إليه. فالخلاف في التفسير هو في حقيقة الأمر صراع بين القوى الاجتماعية والسياسية وقد لا يوجد واحد منها «صحيح» والمتبقي «باطل» إلا بالنسبة لمن يحسم الصراع لحسابه، ويفرز اتجاهه، ويسود المذهب الرسمي في مقابل الاتجاهات الأخرى التي تصبح من قوى المناهضة للتفسير النصي الرسمي، ويشهد على ذلك التاريخ القديم والحديث للفرق الدينية. فقد سادت «الأشعرية» كمذهب رسمي للدولة «السنية» في مقابل فرق الخوارج والشيعة أساساً والمعتزلة بدرجة أقل، بعد أن حسم الصراع بين الدولة الأموية من ناحية والشيعة والخوارج من ناحية أخرى لصالح الأمويين وانتهت المعارضة من الخارج، ثم حسم الصراع من جديد بين الدولة الأموية وأوائل المعتزلة لصالح الأمويين وانتهت المعارضة من الداخل. وقد يتكرر ملمح من هذا التاريخ بالنسبة للصراع بين الدولة العلمانية القائمة التي تقوم على الشرعية وبين بعض القوى المعاصرة المناهضة لها، التي يزعم كل منها أنه يتبنى التأويل الصحيح للنص الديني، بما في ذلك الجماعات المتطرفة، مع أن لا خلاف على أنها متطرفة ومنحرفة عن الفهم السليم للدين الصحيح القويم. -------------- أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة