يعتبر البناء الوطني التنموي الداخلي عملية صعبة ومعقدة، فكل تخصص حرفي ضمنها يُشكل في حد ذاته مهارة نموذجية خاصة، وتصبح كل مهارة مختلفة بشكل تدريجي متزايد عن المهارات الأخرى، بحيث أنها تأخذ منحى الإحلال المتحرك الذي يغطي شبكة متداخلة من المتغيرات. ولكي يستطيع المجتمع المعني العمل بسلاسة في حالة صعبة ومعقدة من هذا القبيل، فإنه عادة ما يطور لنفسه تنظيماً خاصاً به كنظام من التنسيق المتبادل بين البشر والمؤسسات والمنتجين والأهداف والغايات المنشودة، وجوهر العمل المطلوب القيام به. وفي هذا السياق، فإن التنظيم ليس بالشيء المادي الملموس، لكن يمكن إدراكه بشكل غير مباشر عبر التكنولوجيا المستخدمة لتنفيذه أو عبر البشر الضالعين في إيجاده وتنفيذه. إنه نظام يتكون من الممارسات الإنسانية، فيه الشمولية دائماً أكبر من حجم الأجزاء الأخرى بطريقة خاصة. وهو كنظام يكون منسوجاً في بعضه بعضاً بشكل لصيق جداً عن طريق الأهداف والأغراض والنهايات التي يراد تحقيقها من خلاله، ومشيئة بشر معينين يهدفون إلى المساعدة في تمهيد طريق التنظيم وتسهيل الأمر لمهارات أولئك الأفراد للاتصال ببعضهم بعضاً. التنظيم بأشكاله الأولية ليس بالأمر الجديد كلية على الثقافات الوطنية التقليدية لمجتمعات دول العالم النامي، فهي معظمها تنتمي إلى العالم القديم، باستثناء الواقع منها في أميركا الجنوبية. فمنذ الأزل، اضطلعت أوضاع تلك المجتمعات وحياتها الاجتماعية، وبطريقتها الخاصة، بإدارة تنظيماتها الخاصة فيما يتعلق بالمجالات الرئيسية الثلاثة، وهي المجال الاجتماعي -الاقتصادي، والمجال الحكومي-السياسي، والمجال الحرفي والمهني. والفرق هو أنه في الأيام الخوالي تم القيام بذلك بطرق أقل اتساعاً من حيث النطاق والحدود، ومن حيث الأطراف التي يطالها التنظيم، وهو أنماط من التنظيم الذي يخص مختلف الدول التي لم يكن يربطها ببعضها أية روابط أو علاقات سياسية أو تجارية أو اقتصادية واضحة تحكمها اتفاقيات محددة. لذلك فإن موضوع التنظيم يرتبط بالثقافات الوطنية للدول، فبعضها ذات ثقافات وطنية محبة للتنظيم وتمارسه شعوبها كنمط من أنماط الحياة اليومية، في حين أن شعوباً أخرى ترتبط حياتها بعدم التنظيم إلى درجة الفوضى. لذلك فإن العديد من هذه الدول تحتاج إلى دعم ثقافاتها الوطنية على الأصعدة المختلفة، الاستفادة من ما وصلت إليه الأمم الأخرى على هذه الصعد، بمعنى أنها تحتاج إلى تقوية إمكانيات، قدرات أفرادها ومجتمعاتها على ممارسة وقيادة وإغناء وتفتح ثقافاتها الوطنية، لكي تدرك وتستوعب الجوانب الإيجابية للتنظيم ومفاهيمه الحميدة، بالإضافة إلى جعل ذلك جزءاً من ثقافاتها الوطنية المستقبلية. نخلص بالقول بأن الجهود الخاصة بالبناء الوطني التنموي الداخلي تعتمد على عوامل محددة كأساس لبناء الدول الوطنية الحديثة من قبل أمم العالم النامي. وفي المجمل هذه العوامل ثلاثة: أولاً، القوى الكامنة في روح الوطن، وبشكل رئيسي شعور المواطنين العميق بالمسؤولية والاعتماد على الذات والإخلاص والنظام والتنظيم في التعامل مع قضايا الأوطان الداخلية. وثانياً، أهمية الإمكانيات المادية والمعنوية المجودة لدى الأوطان، وأهمية استخدام العقل والوسائل العلمية والتكنولوجية الحديثة لتنميتها والاستفادة القصوى منها. وثالثاً، وأخيراً الفهم الواسع لما يدور حول أمم العالم النامي في عالم اليوم (الاستنارة)، وإدراك وفهم موقع المصالح الوطنية من ذلك والارتقاء بالأساليب الخاصة بالتعامل معها، بمعنى إحلال الطرق والوسائل والعادات والتقاليد البالية غير المفيدة بكل ماهو جديد ونافع عن طريق التعامل الخارجي البناء على أساس مبدأ المصالح المتبادلة والمساواة والعدل والاحترام، وصون السيادة والكرامة الوطنية مع احترام الأمم والشعوب الأخرى في التعامل معها.