لقد أسهمت التكنولوجيا بدور هائل في تطوير التفاعل البشري وتعميقه، وخرج من رحم ابتكاراتها الحديثة كم هائل من التطبيقات التي غيرت وتغير وجه الحياة كما أحدثت تحولات جذرية ابتداءً من ثقافة الإنتاج والاستهلاك وصولا إلى النظم السياسية والاجتماعية والقانونية والرؤى الاستراتيجية والنظريات العسكرية والأمنية، مروراً بالتصورات الأيديولوجية والقيم الأخلاقية، فضلا عن الثورة التاريخية في نمط إنتاج المعلومات وتبادلها. وفي الكتاب الذي نعرضه في المساحة التالية، وهو مجموع الأوراق البحثية للمؤتمر السنوي التاسع عشر لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، المنظم في مارس 2014، تحت عنوان «التكنولوجيا.. التأثيرات والتحديات والمستقبل»، نطالع آراء ونظرات مهنية وأكاديمية متعمقة لمجموعة من الخبراء العاملين في مجالات الصناعة والتعليم والقطاع الحكومي.. وهم يقدمون لمحة استشرافية للتطورات التكنولوجية المتوقعة، وتأثيراتها على الدول والمجتمعات. وفي هذا الإطار يقدم فيليب هوارد ثلاثة سيناريوهات محتملة لكيفية تأثير العولمة والاتصال المتبادل في النظام العالمي؛ في أولها يتحقق نمو تقوده السوق وتهيمن فيه شركات التكنولوجيا والإعلام على العولمة، محاوِلة الموازنة بين مصالح مستهلكي التكنولوجيا ومصالح الجهات الحكومية. وفي السيناريو الثاني تتولى الحكومات دفة القيادة وتعاد صياغة النظام العالمي من خلال وضع معايير لتطوير تكنولوجيا جديدة. أما في السيناريو الثالث فيحظى أطراف المجتمع المدني بتأثير كبير في كيفية تحقيق التواصل بين مناطق العالم وصياغة شروط تقديم الخدمات وتحديد مهام الهيئات التنظيمية الحكومية. وكما تشير ليزا نيلسون، يبدو من الواضح أن الحكومات استطاعت فرض قيود على الإنترنت رغم قدرتها على تجاوز حدود المكان، ورغم التوقعات القائلة بأن العولمة ستؤدي لتقويض سيادة الدول. وفيما تكثر المخاوف بشأن الأمن الإلكتروني، فقد سمح عصر الإنترنت بظهور ما يسميه فين برانتون «هياكل الثقة»، حيث حظيت العملة الرقمية اللامركزية المسماة «البِتكوين» باهتمام عالمي متزايد خلال الأعوام الماضية الأخيرة. وفي هذا الإطار يركز برانتون على معدات الحوسبة والتشفير التي تشكل أساس بروتوكول البِتكوين، والدور الذي يمكن أن تلعبه مستقبلا في التحقق من هوية الأشخاص وحماية ممتلكاتهم وبناء الثقة فيما بينهم داخل فضاء الإنترنت. وحيث يشجع التقدم التكنولوجي على نشوء أشكال جديدة من التعاون الإنساني والفكري، يعتقد نايف الروضان أن نوعاً من الدمج حدث ويحدث في القطاعات المدنية والعسكرية، محدِثاً تحديات أمنية وأخلاقية وتنظيمية جديدة. كما يقر ألين سنتيني بأن التكنولوجيا المستخدمة في قطاع التعليم ليست «عصا سحرية»، وإن كانت مفيدة للغاية في نشر المعرفة البشرية وزيادتها وتحسينها وتسريع إنتاجها. ويحذر مارتن فورد من أن التقدم المتسارع في تكنولوجيا المعلومات بشكل عام، لاسيما تطور الذكاء الصناعي وأتمتة البرمجيات والروبوتات، يمثل عاملا مهماً يسهم في تفاقم حالة عدم المساواة في البلدان المتقدمة، وأن هذا الاتجاه سيضع قيوداً على طلب المستهلك وعلى النمو الاقتصادي. وإلى ذلك، فقد أدت التكنولوجيا إلى تغير البيئة الطبيعية التي نعيش فيها، كما يقول جيمس فليمينغ، في معرضة مناقشته المخاوف من اتجاه المجتمع البشري نحو أزمة في علاقته مع الطبيعة، وهو أمر قد تكون له نتائج كارثية على إمكانية استدامة الحضارة واستمرار الحياة على كوكبنا. محمد ولد المنى الكتاب: التكنولوجيا.. التأثيرات والتحديات والمستقبل