في مقالة سابقة، كتبت عن «مكر التاريخ»، نظرية الفيلسوف الألماني هيجل حول حركة التاريخ، وقد قصد بها أن التاريخ في حركته المستمرة، عقلاني وذكي، ويسير باطراد نحو إنصاف المهمشين والمظلومين ولصالح من حرموا من حقوقهم الطبيعية العادلة، لكن التاريخ له وجه ظاهري وآخر باطني خفي، أما الظاهري فيبدو حافلاً بالاضطرابات والفوضى والمتناقضات والمآسي والحروب والآلام، وأما الخفي فيسير في أعماق المجتمعات ليحقق العدل والإنصاف والحرية ويغير المجتمعات نحو الأفضل. وكل حوادث التاريخ تثبت صحة هذه النظرية، وعندنا في القرآن آيات عديدة تشير إلى سير حركة التاريخ باستمرار نحو تقدم الإنسان وخيره وسعادته وتقدمه، منها «وتلك الأيام نداولها بين الناس» وقوله تعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ»، أي أن الأمور ليست كما تبدو ظاهراً، إذا طبقنا هذه النظرية على المحطات الرئيسية التي مرت بها حقوق المرأة العربية، بدءاً بتعليمها، فعملها، فحقوقها السياسية، ثم المناصب القيادية، وأخيراً توليها مناصب قضائية، في مواجهة تقاليد مجتمعية راسخة، محصنة باجتهادات فقهية ممانعة، أدركنا كيف تطورت الأمور لمصلحة المرأة رغم هذه الممانعات. من كان يتصور قبل 10 سنوات، وصول المرأة الخليجية إلى منصب القضاء؟ كان القضاء حكراً على الرجال وحدهم أكثر من ألف عام في كل المجتمعات العربية، كان أشبه بالحصن المنيع الذي يحرّم على المرأة الاقتراب منه، وتحصن هذا الوضع بتراث ثقافي وفقهي ضخم، دعمته أحاديث منسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام -أعظم نصير للمرأة- تحذِّر من تولية المرأة أي ولاية عامة، والقضاء ولاية عامة! لكن المجتمع الخليجي تجاوز هذا الموروث الثقافي الفقهي، فعينت مملكة البحرين أول قاضية خليجية «منى الكواري» في يونيو 2006، تلتها الإماراتية «خلود الظاهري» في مارس 2008، فالقطرية «مها آل ثاني» في مارس 2010، لتكر السبحة ويصبح عندنا عدد من القاضيات الخليجيات اللاتي أثبتن جدارة واقتداراً بعملهن في مواجهة كل ذلك التراث الضخم من (الفوبيا) المجتمعية ضد قضاء المرأة. وتقديراً لإنجازات المرأة العربية في القضاء، نظمت «الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية» بالكويت، مؤتمراً بعنوان «المرأة والقضاء: تجربة المرأة العربية في القضاء» يومي 2 و3 مارس 2016، وكان لي شرف حضور هذا الملتقى المهم، حيث أفاضت القاضيات العربيات والخليجيات في تسليط الأضواء على تجاربهن في العمل القضائي ومسيرتهن الطويلة والخبرات والدروس المستفادة، والمعوقات التي واجهنها في البدايات وكيف تغلبن عليها، وحرصت الخليجيات على تأكيد دعم القيادات السياسية الخليجية المستنيرة والتي حرصت على تهيئة المجتمع لقبول عملهن، وأنه لولا هذا الدعم ما تحقق لهن الوصول إلى القضاء. ما كان حلماً بالأمس أصبح واقعاً اليوم، وأصبحت المرأة العربية تمارس القضاء في 18 دولة عربية بنجاح واقتدار، فقط 4 دول عربية على رأسها الكويت الرائدة في العمل النسائي الخليجي، لم تصل فيها المرأة إلى سدة القضاء، ولا أتصور اليوم أن هناك موانع قانونية أو شرعية أو مجتمعية، إذ لم يعد التساؤل العقيم: هل تصلح المرأة للقضاء؟ مطروحاً، وإنما التساؤل الملح: كيف نحفز الخريجات من كليات الحقوق والشريعة للالتحاق بالقضاء؟! هناك آلاف الخريجات المؤهلات، ودول التعاون تشكو نقصاً فادحاً في العنصر القضائي الوطني، فتلجأ إلى الاستعانة بالخبرات القضائية العربية، ولا شيء في ذلك، لكن القضاء مرفق سيادي ينبغي شغله بالعنصر الوطني أولاً بحسب التشريعات المنظمة للسلطات القضائية، وهكذا في كل دول العالم، فلماذا لا تتخذ الدول الخليجية استراتيجيات وطنية لتأهيل المزيد من العناصر الوطنية، وبخاصة العنصر النسائي، للعمل القضائي، كما فعلت الدول الأخرى؟ إن توطين القضاء أمر حتمي، يجب الإسراع به ووضع الخطط الكفيلة بتحقيقه خلال عشر سنوات، وذلك لاعتبارات العدالة نفسها، فالقاضي الوطني أقدر على معرفة شؤون مجتمعه وأعرافه وتقاليده، واختياره للقضاء يعني استثماراً أفضل لطاقات وطنية مهدرة، وتوفيراً لأموال طائلة ينبغي ترشيدها في ظل الوضع الاقتصادي الحالي. على الدول الخليجية حشد الجهود لجذب المواطنين المؤهلين للالتحاق بالعمل القضائي تحقيقاً للمصلحة العامة.