لقد خلف جان-مارك إيروت مؤخراً لوران فابيوس على رأس الدبلوماسية الفرنسية. وهو رئيس وزراء سابق، ورجل سياسة من الوزن الثقيل، وسيكون في حالة تواصل يومي مباشر مع رئيس الجمهورية. وتتسم مقاربته للسياسة الخارجية والشؤون الدولية بأنها خليط من التوجهات الديغولية- الميترانية، مع مسحة من حساسية اليسار المسيحي، الذي يتمتع عادة بحضور قوي في المناطق الغربية من فرنسا. تماماً مثلما يعرف أيضاً عنه تعلقه الشديد بقضايا حقوق الإنسان، وشراكات التعاون بين الشمال والجنوب. والسؤال الذي يطرح نفسه بخصوص دبلوماسية «إيروت» المقبلة ينصبّ أساساً حول مدى هامش الحركة المتاح له، ونحن على بعد أربعة عشر شهراً فقط من الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الفرنسي؟ ثم ما هي القضايا الأساسية التي سيكون لديه من الوقت ما يسمح له بالاشتغال عليها، وتحقيق إنجازات فيها؟ هنا يتعين على جان- مارك إيروت أن يضع سُلماً واضحاً من الأولويات بحيث يختار فقط القضايا والملفات الأكثر أهمية، والتي يمكن أيضاً، في ضوء ضغوط الوقت والواقع، بلورتها في زمن قصير. ولاشك أن معرفته باللغة الألمانية -وهذا أمر نادر في فرنسا- وكذلك معرفته بألمانيا نفسها، تجعلانه عملياً مؤهلاً سلفاً للاشتغال على تقوية دعائم العلاقات الفرنسية- الألمانية، وهذه ينبغي أن تكون هي أولوية الأولويات الآن، وقد شهدت الروابط بين الجانبين مؤخراً قدراً من التراخي والفتور النسبي بحكم وجود افتراقات محسوسة في المصالح، ولوجود نوع من التراجع الضمني عن الاندفاع الشديد في تعميق تلك العلاقة، ولذا فسيكون جان- مارك إيروت في موقع ملائم تماماً لإعادة الحيوية والدافعية للعلاقة بين فرنسا وألمانيا في وقت يشعر فيه البلدان بأن التباعد فيما بينهما يقلص نسبياً من مكاسب كل منهما. وحتى في اتحاد أوروبي مؤلف من 28 عضواً، يظل الثنائي الفرنسي- الألماني دائماً هو المحرك والقاطرة الأفضل لتحقيق نتائج ملموسة لأوروبا، مثلما أظهرت ذلك اتفاقات مينسك في فبراير 2015 التي رعت إطلاق نار بين أوكرانيا وروسيا، ويقال أيضاً إن دور وحضور فرنسا ظل مؤخراً أقل في بروكسل، في ظرف تواجه فيه أوروبا تحدي الـ«بريكسيت» (أي مبادرة خروج المملكة المتحدة المحتمل من الاتحاد الأوروبي)، وكذلك الأزمة الجارفة المترتبة على تدفق سيل اللاجئين، والقطيعة الجديدة بين الشرق والغرب، هذا فضلاً عن أزمة محتملة للعملة الموحدة «اليورو»! ولاشك أن حساسية «إيروت» الأوروبية ستدفعه للبحث عن أفضل الحلول لهذه المشكلات ذات الأولوية الخاصة. غير أن ثمة ملفين كبيرين، هما أزمة سوريا والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، تبقى هوامش التحرك بشأنها ضئيلة، وفرص الاختراق فيهما ضعيفة، وفيما يتعلق بسوريا، يؤدي تعدد المتغيرات، والاختلافات الشديدة في الرؤى والمصالح بين الأطراف المتحاربة، إلى جعل فرص التوصل إلى أي حل سياسي بعيدة، وفي غير المتناول، ولعل الميزة الوحيدة التي يتمتع بها «إيروت» بهذا الملف هي أنه يستطيع الانطلاق في تعامله معه من النقطة صفر، لأنه لم يكن في الصورة من قبل. وبالنسبة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، تبدو فرنسا أقل إرادة وتحمساً، للاشتباك مع هذا الملف، وهذا هو الحال منذ سنة 2005، والقضية تبدو أصلاً غير قابلة للاختراق أو الحل في ظل وجود حكومة إسرائيلية تسد آذانها عن أي حل سياسي، وفي انتظار ساكن مقبل للبيت الأبيض سيكون، على كل حال، أكثر إيجابية مع إسرائيل مقارنة بالرئيس أوباما، هذا فضلاً عن حالة عجز وعدم فاعلية عامة في الولايات المتحدة. وحتى لو أراد جان- مارك إيروت الإمساك بزمام المبادرة هنا، فلن يكون متيقناً بأن قصر الأليزيه لن يعرقل مسعاه. «جان- مارك إيروت» سيعمل بصدق، على تنمية العلاقات مع دول الخليج، التي وصلت اليوم إلى مستوى من القوة يلبّي تطلعات جانبي الشراكة، وعندما كان رئيساً للوزراء كانت له أيضاً زيارات وجولات في آسيا. وبطبيعة الحال فستكون لديه رغبة قوية في الاستمرار في إعادة التوازن للدبلوماسية الفرنسية في هذه المنطقة، ودعم دور وحضور فرنسا فيها، وفي أفريقيا تعطي العمليات العسكرية الجارية هناك دوراً أكبر ووزناً أثقل لوزارة الدفاع مقارنة مع دور وزارة الخارجية في مبنى «كي دور ساي»، ولا يبدو أن هذا الاتجاه يمكن تغييره من هنا وحتى سنة 2017. وثمة موضوع آخر على صلة بالعمل مع ألمانيا أيضاً، ويمكن لجان- مارك إيروت تحقيق تقدم دال فيه هو: استعادة مستوى معين من العلاقات مع روسيا يمكن أن يقود في النهاية إلى رفع العقوبات المفروضة عليها على خلفية الأزمة الأوكرانية، فمنذ عامين، اعتبر الغربيون أن موسكو مسؤولة كلياً عن نشوب الصراع مع أوكرانيا، واعتبروا القادة الأوكرانيين ضحايا فحسب، ولكن اليوم، بات من شبه البديهي أن هنالك أيضاً «صقوراً» في كييف، وأن المشكلة الأساسية لذلك البلد تكمن في فساد قادته أكثر من دور التدخلات الروسية، الحقيقية هي أيضاً بكل تأكيد، والعقوبات التي فرضها القادة الغربيون على روسيا تلقي بأعباء ثقيلة على الاقتصادين الفرنسي والألماني، بشكل خاص، وهي فخ تريد الدولتان الخروج منه، وهذه مناسبة سانحة لكي تتحرك برلين وباريس معاً في هذا الملف، مع فرص نجاح كبيرة، لبلوغ أهدافها وحماية مصالحهما الاقتصادية.