لقد ذكرت هنا الأسبوع الماضي أن على القوات العربية المشتركة أن تتوقف عند تجارب المنظمات والتحالفات العسكرية الإقليمية الجادة لتأخذ منها الدروس والعبر. وأفضل مثال توقفنا عنده، أو يمكن أن نتوقف عنده، هو مثال الحلف الأطلسي، وقد رأينا كيفية إنشاء هذا الحلف والتأقلم المستمر الذي تعرفه هياكله لمواجهة التحديات المستمرة، وهناك أربع نقاط أود التوقف عندها في مقالة اليوم: - السكان الذين يساهم الحلف في وضع مظلة وقائية لهم يقرب عددهم من 900 مليون نسمة، أي مجموع سكان دوله الأعضاء، كما أن عدد التحديات في تطور مستمر: الدفاع عن الحدود، الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، تحدي الهجمات الصاروخية، الإرهاب، القرصنة، إلى غير ذلك، وهذا يعني ضمن ما يعنيه كثرة المشاكل الداخلية بين الدول المكونة للحلف وصعوبة إيجاد توافقات بين دول مختلفة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وذات تموقع جغرافي مختلف، فأميركا ليست فرنسا، وفرنسا ليست تركيا أو بولونيا أو أوكرانيا، كما أن الأزمات المتوالية التي عرفتها المنطقة (أزمة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم من طرف روسيا، ثم التدخل العسكري المباشر لروسيا في سوريا) عقد السيناريوهات التي تضعها الدول المحورية في الحلف، فروسيا ما زالت دولة نووية يمكن أن تزيل دولًا من الخريطة الجغرافية ولا يمكن مجابهتها عسكرياً وإلا دخلت المنطقة كلها فيما لا يمكن أن تحمد عقباه، كما أن عدم التحرك سيضع لبنات النظام الدولي في مستنقع المجهول، ولذا فاستراتيجياً أظن أن هذه الفترة هي أعقد فترة يمر بها الحلف الأطلسي. -أن بلداناً كدول أوروبا الوسطى والشرقية لا تهتم كثيراً بما يقع في جنوب المتوسط أكثر من تخوفها من روسيا بعد حرب أوكرانيا وضم القرم، وهي تسعى جاهدة إلى أن يشير الحلف صراحة، في قمم مقبلة، في بياناته إلى أن روسيا هي العدو الأول للحلف، ولكن في مثل هذه الظروف، يرى استراتيجيو الحلف ضرورة التمتع بالحكمة الاستراتيجية في مقابل دولة نووية هي جزء رئيسي من النظام الإقليمي والنظام العالمي، ويستحيل ترك دول مثل بولندا تفرض على الحلف تخوفات اللحظة لتؤخذ قرارات قد تقوض مبادئ التعايش مع روسيا. - وما أسميه بالحكمة الاستراتيجية هو ما يعطي للحلف قوّته، وهذه هي سياسة أمينه العام الحالي ستولنبرغ وسياسة ألمانيا وفرنسا المبنية على سياسة الردع الإيجابي، وعدم التصعيد العسكري مع روسيا وعدم قبر الاتفاق المؤسس بين روسيا والحلف سنة 1997، ولكن مع ذلك قام الحلف بوضع قوات مراقبة دائمة في دول أوروبا الشرقية في ستة هياكل ‏?(?Nato Force Integration Units?) ? وهيكلان ?آخران ?سيتم ?نشرهما ?في ?هنغاريا ?وسلوفينيا، ?كما ?أن ?مبدأ ?مشروع ?النشر ?السريع ?للقوات ? (?RAP?) ?تم ?تبنيه ?مؤخراً ?من ?قبل الحلف ?الأطلسي ?زيادة ?على ?قوات ?التدخل ?السريع ?(?VJTF?) ? التي ?تستطيع ?التدخل في ?دول ?الحلف ?أو ?خارجه ?بسرعة ?فائقة، ?كما ?أن ?الدولتين ?المحوريتين ?في ?أوروبا ?والنافذتين ?في ?الحلف (?فرنسا ?وألمانيا) ?مع ?الولايات ?المتحدة ?الأميركية، ?تحاول ?إقناع ?روسيا (?ومن دون ?جدوى ?طبعاً) ?بأن ?تغطية ?الدول ?بمضادات ?للصواريخ ?ليست ?موجهة ?ضدها ?وإنما هي ?موجهة ?لدول ?مثل ?إيران. -في سنة 2008 بلغ مجموع القوات العسكرية التي كانت منتشرة بشكل مباشر تحت مظلة الحلف الأطلسي 168000 عسكري، وتناقص العدد ليصل إلى 16000، لأن قوة أي حلف ليس بقوة عدد جيوشه المنتشرة، وإنما بقوة تحالف دوله، وبقوة ونوعية الأسلحة المستعملة وخبرته الاستراتيجية والاستخباراتية والتنظيمية والتدخلية، فلم نعد في الحروب القديمة حيث قوة العدو تحسب بعدد الجيوش وإنما بقوة ودقة السلاح المستعمل... وهذه الاستراتيجية للتقليل من عدد الجيوش والرفع من قوة التدخل ودقة التخطيط أعطيت للمسؤول الثاني في الحلف القائد الأعلى المكلف بالتغيير ‏?(?SACT?) ? ومقره ?ليس ?في ?بروكسل، ?وإنما ?في ?نورفولك ? (?NORFOLK?) ? بالولايات ?المتحدة ?الأميركية، ?وقد أعطيت ?المهمة ?للجنرال ?الفرنسي ?دونيس ?ميرسيي ?الذي حل محل ?جان ?بول ?بالوميروس ?وكلاهما ?كانا ?قائدين ?ساميين ?للقوات ?الجوية. إن هذه الإطلالة تحيلنا إلى أن أي حلف عسكري، ولو بقوات قليلة، يمكن أن يحمي أمصاراً ذات مساحات جغرافية واسعة ومتباعدة (أوروبا وأميركا فيما يتعلق بالحلف الأطلسي)، ولا يعني الحلف البتة بالضرورة استعمال القوة بطريقة أوتوماتيكية لتحقيق النتائج المرجوة، وإنما يجب أن يحقق وجوده استراتيجية ردعية وحمائية تثبط الأعداء عن التدخل العسكري... بمعنى أن الحلف العسكري يجب أن يكون له حضور دبلوماسي في أروقة الأمم، وأن يستعمل الأدوات التفاوضية التي تمنحها له القوة والهيبة العسكريتين ولكن بأساليب مدنية، ومن هنا ضرورة الحكمة الدبلوماسية والتفاوضية في أي تحالف عسكري، وهذا هو بيت القصيد.