تبدو عبارة «إسلام سياسي» مفهوماً متجذراً في الدراسات الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالحركات الأيديولوجية التي تتبنى المرجعية الإسلامية نظاماً للحكم، وهي في مجملها تفريعات مدرسة «الإخوان المسلمين» المصرية التي تأسست قبل قرابة قرن من الزمان. ما لا يعرفه الكثيرون أن مفهوم «الدين السياسي» مصطلح إشكالي، أول من بلوره هو الفيلسوف الألماني «أريك فوجلين» في كتاب لم ينتشر كثيراً صدر عام 1933 بعنوان «الديانات السياسية» في سياق الجدل الواسع الذي خلفه صعود الأيديولوجيات القومية الاستبدادية التي تستند إلى رمزية وقوة التقليد دون أن ترتكز على قداسة الدين. وقد عرف هذا النقاش في بدايات الخمسينيات دفعاً جديداً في إطار الردود الكثيفة التي خلّفتها أعمال الفيلسوفة «حنة ارنت» حول الظاهرة «التوتاليتارية» التي هي شكل جديد من الاستبداد له ميزاته وخصائصه التي تفرقه عن أشكال التسلطية السابقة في نسختها الدينية والسياسية. ما ذهبت إليه «حنة ارنت» هو أن الحداثة الأوروبية بفصلها الجذري بين الدين والسياسة، ألغت مبدأ التعالي المقدس كمصدر للشرعية السياسية ومحوراً ناظماً لها، ومن ثم بقي سؤال أفقيّة السلطة مطروحاً في منظومة تتحدد فيها علاقات الحكم أفقياً من دون الحاجة إلى مركز خارج النظام الاجتماعي. في مقابل أطروحة «فوجلين» التي تذهب إلى أن الأيديولوجيات الاستبدادية الحديثة هي نمط من الديانات السياسية تُمارس قلباً خطيراً لمنزلة المطلق والتعالي بنقله من السماء إلى الأرض، أي من منظور الميتافيزيقا العلوية إلى دنيا البشر، بما لا يمكن أن يتم إلا من خلال العنف والتسلط. في مقابل هذا الرأي، تذهب «حنة ارنت» إلى أن الفلسفة الأفلاطونية واللاهوت المسيحي قلبَا منظور السياسية بنقل الثلاثية الرومانية «الدين والتقليد والسلطة» إلى اتجاه مهيمن في الفكر السياسي هو البحث عن النظام المثالي المستقبلي الذي يحقق الفضيلة المدنية. الأيديولوجيات الكيانية بمنظور حنة ارنت هي في قطيعة كلية مع التجربة الأصلية في السياسة من حيث هي تجربة التعددية والرباط العمومي، أما الشرعية الدينية بمفهومها الفلسفي اللاهوتي فتحول السياسة إما إلى طوبائية أخلاقية مستحيلة أو مجال لتسيير المصالح الخصوصية المشتركة دون تصور فعلي للكل الجماعي، في حين أن الاستبدادية الحديثة ماكينة لصناعة «الوحش البشري» وقولبة «الحشود» الفاقدة للحرية. لا ترتكز المنظومات التوليتارية إلى سقف ديني لأنها تصدر عن نزوع وضعي وتماه مع حركيّة التاريخ، إلا أن «فوجلين» يعتقد أن هذه النزعات الاستبدادية في وضعيتها وتقنيتها تحتاج لمنبع «روحي» قوي يأخذ شكل تأليفة فريدة بين تدبير السماء بالمنظور اللاهوتي وإجراءات الإدارة البيروقراطية الناجعة التي لا يمكن أن تصبح فاعلة دون هذا المضمون اللاهوتي المعلمن. ويعيش الفكر العربي اليوم نقاشاً مماثلاً بين نمط من الدين السياسي الذي كرسته حركات التطرّف الديني في فهمها للطابع الخلاصي البشري للدين من حيث هو البوابة المركزية للسلطة السياسية بصفتها في العصر الحاضر محور المنظومة الاجتماعية، ونمط السياسة الإطلاقية بالمفهوم الديني التي هي الأيديولوجيات الأحادية الفاشستية التي أخذت العلمنة شعاراً، ومارست في الفعل السياسي أدوات اللاهوت بنقلها من المحور العقدي الروحي إلى السياق العملي التاريخي (كما كان شأن التنظيمات الحزبية الحاكمة في البلدان العربية الراديكالية). كان من السهل على الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بعد هزيمة بلاده في حرب 1991 أن يطبع التوجه الأيديولوجي لحزب البعث القومي الاشتراكي الحاكم بالمقولات والمفاهيم الدينية المستوحاة في الغالب من خطاب الأيديولوجيات الإسلامية السياسية التي طالما حاربها (وإنْ دعمته في الغالب في حادثة احتلال الكويت)، كما كان من السهل أن تتحول البعثية الأسدية إلى نمط من النسخة الشيعية من أيديولوجيا ولاية الفقيه الإيرانية، فلا فرق في الجوهر في طبيعة وأرضية البناء الفكري والأيديولوجي. الدين السياسي، وإنْ كان يصدر عن وهم رفع الدين إلى مستوى المرجعية الشمولية للسلوك البشيري، اعتقاداً وممارسة، هو في حقيقيته تديين للسياسة ومنحها طابعاً إطلاقياً مقدساً، بما يفسد دين الناس ودنياهم معاً.