في الثالث والعشرين من يونيو المقبل، سيتوجه البريطانيون إلى مراكز الاقتراع من أجل التصويت بـ«نعم» أو «لا» في استفتاء يُسأل فيه الناخبون: «هل ينبغي للمملكة المتحدة البقاء عضواً في الاتحاد الأوروبي أم الانسحاب منه؟». نتيجة هذا الاستفتاء ستكون لها تداعيات كبيرة بالنسبة لبريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة وبلدان تجارية مهمة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. التصويت بـ«نعم» سيلقى ترحيباً كبيراً من الحكومات الحالية في أوروبا والولايات المتحدة ومن معظم الدوائر المالية والتجارية. أما التصويت بـ«لا»، فسيؤدي إلى قدر كبير من حالة عدم اليقين في المجال الاقتصادي، لاسيما في القطاعات المالية الأوروبية، كما يمكنه، في حالة بريطانيا، أن يؤدي إلى استفتاء آخر في اسكتلندا حول الاستقلال عن المملكة المتحدة، وذلك لأن معظم الناخبين الاسكتلنديين يرغبون في البقاء في الاتحاد الأوروبي. أحد بواعث القلق بشأن إمكانية أن يفضي الاستفتاء إلى غلبة «لا» على «نعم» هو أن الاتحاد الأوروبي تعرّض للكثير من الضغط خلال العامين الماضيين. فالأزمة المالية لعام 2008 تركت تأثيراً بالغاً على الاقتصادات الأوروبية، وخاصة تلك الموجودة في الجنوب، مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان، وبلغت الأزمة ذروتها مع ما كاد يصبح إفلاساً للاقتصاد اليوناني وما تلا ذلك من فوضى سياسية داخلية بسبب التدابير التقشفية الجذرية التي اضطرت أثينا لتبنيها حتى تتجنب انسحاباً مخزياً من منطقة اليورو. وقد تدهورت العلاقات بين اليونان وألمانيا، البلد الذي كان لديه أكبر قدر من النفوذ والتأثير لتحديد مستويات التقشف التي ينبغي فرضها على دول الأزمة في منطقة اليورو، لدرجة أن البعض في اليونان أخذوا يذكّرون بسلوك ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، حين احتلت اليونان من عام 1941 إلى 1945. غير أنه ما أن بدأ الاقتصاد اليوناني يبدي بعض المؤشرات على التعافي حتى وجدت البلاد نفسها أمام أزمة جديدة، لكن من نوع آخر: تدفق هائل للاجئين القادمين من الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا هرباً من الحروب في سوريا والعراق وأفغانستان. ولعل المثير للسخرية هنا هو أن أحد أسباب قدوم هذا العدد الكبير من المهاجرين إلى أوروبا هو الموقف الإيجابي والمرحِّب للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، السياسية التي كانت جد متصلبة ومتشددة بشأن موضوع قروض اليونان. غير أن هدف السواد الأعظم من المهاجرين الذين يصلون إلى جنوب أوروبا هو التوجه إلى ألمانيا واسكندنافيا وبريطانيا، وهذا الأمر هو الذي جعل الكثيرين في بريطانيا ينقلبون على الاتحاد الأوروبي وسياسته المرتبكة وغير المنسجمة تجاه الهجرة. لكن التغطية التلفزيونية اليومية للعنف والفوضى في مخيمات اللاجئين على أطراف مدينة كالي الفرنسية، التي تبعد 32 كيلومتراً فقط عن بريطانيا، ساهمت أيضاً في التأثير في آراء كثير من المواطنين البريطانيين الذين استبد بهم الخوف والقلق وباتوا ينظرون إلى ما يحدث هناك باعتباره تهديداً حقيقياً لهم. المأزق بالنسبة لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون، والذي تفاوض مع نظرائه الأوروبيين من أجل الحصول على وضع خاص لبريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، ومن ذلك تفاهم بشأن عدم رغبة بريطانيا في الانضمام إلى منطقة اليورو، هو أن عدداً من الأعضاء القياديين في حزبه يعتقدون أنه ينبغي على بريطانيا أن تنسحب من الاتحاد، ومن هؤلاء منافسه الأبرز على زعامة حزب المحافظين، عمدة لندن البارز بوريس جونسون. والجدير بالذكر هنا أنه سبق لكامرون أن أعلن أنه لا يعتزم الترشح لولاية ثالثة كرئيس للوزراء بغض النظر عن نتيجة الاستفتاء. على أن المجال الوحيد الذي تبدو فيه آراء البريطانيين متفاوتة هو الأمن الوطني. صحيح أنه سيصبح باستطاعة بريطانيا، حال انسحابها من الاتحاد الأوروبي، أن تفرض مراقبة أكثر نجاعة وصرامة على حدودها بغية الحد من احتمالات دخول جهاديين إليها من أوروبا، غير أن المخاطر التي تطرحها التنظيمات الإسلامية المتطرفة على القارة الأوروبية برمتها، وعلى الشرق الأوسط أيضاً، والسلوك الشرس للزعيم الروسي فلاديمير بوتين، يعنيان -بالمقابل- أن التعاون الوثيق بين البلدان الأوروبية والولايات المتحدة يظل مهماً جداً على غرار ما كان عليه الحال إبان سنوات الحرب الباردة. وفي ظل هذه الظروف، فلا شك أنه من مصلحة بريطانيا أن تظل على ارتباط وثيق بأوروبا في المجالين السياسي والعسكري. استطلاعات الرأي في بريطانيا تشير، في الوقت الراهن، إلى تقدم طفيف لأنصار «نعم»، لكنه تقدم يعادل تقريباً هامش الخطأ في هذه الاستطلاعات. وبالتالي، فإن مجرد تفاقم أكبر لأزمة اللاجئين قد يكون كافياً لفوز «لا»، وهو ما من شأنه أن يكون مقدمة لانحلال المشروع الأوروبي وتفككه، الأمر الذي سيمثل زلزالا جيوسياسياً ستكون له، من دون شك، عواقب وخيمة جداً على السلام والنظام الدوليين.