انطلقت يوم السبت الماضي في المنطقة الشمالية من السعودية فعاليات تمرين «رعد الشمال» بمشاركة عشرين دولة عربية وإسلامية. وهذا التمرين هو التمرين العسكري الأكبر من نوعه، حيث عدد الدول المشاركة ومن حيث العتاد العسكري المستعمل من طائرات مقاتلة، فضلاً عن مشاركة واسعة من سلاح المدفعية والدبابات والمشاة ومنظومات الدفاع الجوي والقوات البحرية. والتمرين يأتي كما هو معلوم في ظل تفاقم التهديدات الإرهابية، وما تعرفه المنطقة من انفلات أمني وتدخل أجنبي غير مسبوق. وسبق لي في مناسبات عدة أن تحدثت عن أهمية القوات العربية المشتركة، وقلت مراراً إن وجودها والتأصيل لها من ضروريات البقاء في زماننا هذا شريطة أن تستفيد من دروس التاريخ ومن تجارب المؤسسات العسكرية الإقليمية الأخرى، مما سيمكنها من الاستعمال الأمثل ومجابهة التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي بمختلف أشكاله. ومأسسة هذه القوات في مؤسسة عسكرية وفي حلف قار بأسلحة وبجيوش ومواثيق من البديهيات، كما أن وجود دول محورية داخلها شرط من شروط النجاح، ولا يظنن ظان أن كل شيء يجب أن يُنتهى منه الآن كتابة ومصادقة من الدول، فالتدرج حكمة بالغة، ولكن في إطار أصول غير مرتجلة ومعقولة. إذ ينبغي البناء لحلف عسكري أو لنقُل لبنية عسكرية تجمع قوات عربية مشتركة في منظومة ذات جذور عميقة وذات فروع ممتدة، ترعاها دول محورية، تتمتع ببعد النظر وبالمسؤولية وبسعة الصدر ونكران الذات. ولنلقِ هنا إطلالة سريعة عن تاريخ الحلف الأطلسي لنفهم أن استراتيجيات التحالفات العسكرية تتغير، والمصالح دائماً ما تكون متناقضة ومتعددة، والتوافق مع ذلك يكون ممكناً ما دامت مؤسسة قائمة بذاتها إلى حد أنها يمكن مع مرور عقود من الإنشاء أن تستوعب المزيد من الدول الأعضاء الجدد. والحلف الأطلسي يعتبر واحداً من المؤسسات العسكرية الأكثر تنظيماً في العالم، والأكثر قوة وقدرة على التدخل بفضل قوة الدول الأعضاء، وهو يضم 28 دولة بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية وكندا وفرنسا... ومن بين الدول الأخيرة التي انضمت إليه نجد ألبانيا وكرواتيا. وضمن أهداف هذه المنظمة تثبيت السلم في القارتين الأميركية والأوروبية، أي مناطق وجود دولها الأعضاء، وتجذير أسس الدفاع المشترك تحسباً لكل خطر خارجي. ويتوافر الحلف على قدرات عسكرية تمكنه من التدخل العسكري، ولكن أهم ما يمكن أن يلاحظه أي متتبع للشؤون الاستراتيجية والعسكرية في ميثاق الحلف المؤسس، هو أن الهجوم على أية دولة عضو، يعتبر بمثابة هجوم على كل الدول، وهو ما يمكن أن يدفع لتدخل جماعي للدول أعضاء الحلف. وهذا ما تشير إليه المادة الخامسة من معاهدة واشنطن، وتسمى أيضاً معاهدة الحلف الأطلسي، وهي المادة التي استخدمت بعد الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر 2001. وقد أنشئ الحلف في سنة 1949 لضمان السلم في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت هناك دولتان تحت مجهر الحلف الدائم: ألمانيا والاتحاد السوفييتي البائد. وفي سنة 1991 كان الاتحاد السوفييتي قد انهار، وروسيا الجديدة بدأت تعيش أزمة اقتصادية خانقة، ولكن ابتداء من هذه السنة ظهرت حروب يوغسلافيا التي دامت عشر سنوات، أولًا في سلوفينيا، وكرواتيا، ثم في البوسنة، وبعدها في كوسوفو، وأخيراً في مقدونيا. وتدخل الحلف الأطلسي في البوسنة سنة 1995 ثم في كوسوفو سنة 1999. وابتداء من سنة 2001 سيتدخل الحلف ولأول مرة في حرب غير نظامية هي الحرب ضد الإرهاب، وبالضبط في أفغانستان، وهذه أول عملية عسكرية للحلف خارج نطاق المنطقة التي كان عليها مدار إيجاد الحلف (أوروبا وأميركا). كما أن الحلف أيضاً ظل يتأقلم مع كل المستجدات، ففي سنة 1991 بدأ المنحى العقلاني يتجه إلى توسيع المفهوم الاستراتيجي ليشمل كل دول أوروبا بما في ذلك الدول التي كانت في الزمن القريب تعد عدوة، وفي سنة 1999، تمت المصادقة على نص بموجبه تم إدماج الإرهاب كخطر يسمح للحلف بالتدخل العسكري، وفي سنة 2010 صادق الحلف في «ليزبون» على مفهوم استراتيجي يعطي الضوء الأخضر للحلف لحماية سكان دوله الأعضاء داخل منطقة الحلف الأطلسي وخارجها. فأدوار الحلف لم تعد إقليمية أو متموضعة في منطقة دوله حصراً، وإنما بدأت تتوسع مع مستلزمات اللحظة الاستراتيجية لتشمل مناطق متوزعة في أنحاء العالم كله، وللحديث بقية.