المفاجأة المعرفية الجديدة التي وقعت لي مؤخراً، هي ما وصلني من بعض شباب الباحثين الصوماليين؛ من قلب مقديشيو، في شكل إنتاج بحثي منظم من «مركز مقديشيو للبحوث والدراسات»، كمؤسسة بحثية إعلامية وتعليمية أهلية للبحوث الاجتماعية والتنموية للمجتمع الصومالي. ولإعداد كوادر وطنية قادرة على قيادة والوطن، وتأسست لذلك منذ أغسطس 2013. سبب المفاجأة هو عزلتنا في مصر ومعظم أنحاء الوطن العربي عن الواقع الصومالي لعدة عقود، اللهم إلا ما يغرقنا فيه الإعلام الغربي عن «الدولة الفاشلة»، أو سيطرة الإرهابيين والقراصنة، والانفصاليين، على كيان شبه فيدرالي بين القبائل، أو عن تبادل النفوذ الدولي أو الإقليمي الأفريقي، للسلطة بقوات مسلحة تزيد على عشرين ألف عنصر، لردع كافة «المتمردين»، بينما «السلطة الشرعية» بنت أهلها، تعيش معظم الوقت خارج الحدود، بحيث أني كتبت منذ بضع سنوات عما بلغني عن رئيس حكومة الصومال في نيروبي أنه «ينوي زيارة مقديشيو»! لكن ها هي مقديشيو تعيش حالة جديدة، غريبة بدورها، حيث يشير بعض شبابها في منتجهم عن «حصاد الأسبوع» الدوري إلى ميل للاستقرار، في ظل محاولة من «المجتمع الدولي» لتحقيق ذلك. ويسمى البعض هذا المجتمع الدولي «بالقبيلة السادسة» إشارة إلى دور هذا «المجتمع» في الصراع الدائر بالبلاد إلى جانب القبائل الخمس الرئيسية الأخرى! ومطبوعات هذا المركز الشاب، التي بدأت تردني بالوسائل الإلكترونية ( ديسمبر15- فبراير2016 )، تتنوع بحوثها، وهمومها، ولكنها قادرة على تصورات موضوعية ملفتة رغم عدم تحديدي لاتجاه معين لهم إلا إخلاصهم الوطني، ولغتهم العربية المدققة، وسيطرتهم على الإخراج الفني لنشراتهم، ومعرفة ومتابعة جيدة بأنحاء من العالم العربي الذي يبدأ بجيبوتي ويمتد إلى الإمارات والسعودية ومصر، بشكل فيه احترام واضح لتصوراتهم، لأن الإعداد التي بدأت تصلني فاجأتني بعتاب عن عدم وجود تمثيل عربي مناسب في مقديشيو إلا مندوبي البعثات الدبلوماسية العربية في العواصم المجاورة!. ومع اندماج هذه المجموعة البحثية في تصوير «الهموم المحلية»- والمركز واحد من حوالي عشرين مركز جديد تبدو أقل شهرة – فإنها تتجادل مع محاولات لوضع دستور دائم يقوم عليه البرلمان المقترح والرئاسة المنتخبة في أغسطس 2016، ويجرى الجدل حوله في مؤتمرات «للمجلس التشاوري» الآن في مقديشو، إلا- أنهم يبدون قلقين من مفهوم للديمقراطية المتوقعة؛ يقوم على صراع بين الخيار«القبلي» و«الجهوى» أو بتعبيرهم «المحاصصة القبلية» و«المحاصصة المناطقية»، في أحسن الأحوال، ويبدو هنا أنهم سعداء فقط بإنقاذهم من الصراع «الطائفي» السائد في المنطقة العربية، ورغم الصراع القائم من قِبل إقليم «بونت لاند»، بل داخل الحكومة بين قيادة تريد تمديد السلطة الحالية، وأخرى ترى أن من مصلحتها التغيير. لكن الأوراق التي بين يدي، تفاجئني، وهي تقدم هذا الصومال البادي في طريق الاستقرار بحماية دولية ذات مطامح هائلة في ثروات متوقعة من البترول خاصة (وأعرف أنه الذهب أيضاً)، بأن عام 2015 كان من أكثر الفترات فزعاً من الناحية الأمنية من قِبل نشاط مكثف لـ«حركة الشباب» يمتد من قلب مقديشيو، وحتى قلب نيروبي، بجرأة ملفتة على أكثر المواقع كثافة و«شياكة» في العاصمتين، فضلا ًعن أكثر من مائة ضربة عنف مسجلة بآثارها من القتلى، فيما أسماه الباحثون «التقرير الأمني السنوي» في 15/ 2/ 2016 بل وبعنوان فرعي «معركة كسر العظم بين جهاز الاستخبارات الصومالي و«حركة الشباب»! وهو عرض يكاد يعبر – في تقديري المؤقت - عن تبنيه لعدم الاستقرار الكامل للوضع الحكومي أو شرعية وجود«القوات الأجنبية – ولا يسميها الباحث برضى كافِ : قوات دولية إلا قليلاً - وأن الأعمال الإرهابية في كينيا خاصة هي ناتج احتلال كيني غير شرعي لأراض صومالية، بل ودخولها ضمن قوات الاتحاد الأفريقي عنوة! ثم تبدأ التقارير في معالجة «الخلل الأمني» وأحياناً المريب الذي جعل عزل هذه القوات لمنطقة «مركة» الساحلية، على نحو ما عزلت «الموصل» في العراق! والتقارير الصومالية – المفاجأة - غنية بمعلومات يندر تداولها عن فرق الأمن السبعة، بل وفصائل «حركة الشباب» السبعة أيضاً، دون حديث بلغة الإرهاب، ولا آثاره في المجتمع، ولا سيرة عما سُمي بالقرصنة إلا تلميحاً عن لجوء الجميع إلى أرض «بونت لاند»! لكن التقارير تتحدث أيضاً عن ظاهرة خطيرة بالطبع – ذات أثر مستقبلي عن «صراع القاعدة وداعش»، وانقسام بعض شيوخ «حركة الشباب»، وإعلانهم الولاء لـ«داعش». والوجود «الداعشي» في العاصمة والجنوب الصومالي خاصة، بل وأثر هذا التصارع في زيادة أعمال العنف من باب إثبات الوجود. التقارير الشابة مليئة بالتفاصيل والتحليلات التي تنبه مراكزنا البحثية لضرورة متابعتها والتواصل معها، إذ يبدو أنهم عارفون بالواقع العربي، والجدل الدائر عندنا، حول الثقافة الوطنية، وحركات المراجعة الإسلامية وخاصة في الصومال نفسه حول الممارسات الجهادية، والخلافة، والدولة...الخ ومساهمات بعض الدول العربية وخاصة التاريخية منها مثل العلاقات الصومالية المصرية. والتقارير تبعث برسالة معرفية أخرى عن وجود جامعات صومالية (جامعة بيدم وجامعة شرق أفريقيا)، وعن وجود الصحف بالعربية واللغات الأخرى (وحدة الشباب – القرن الأفريقي – النهضة الوطنية – الصراحة...) وعن نشاط الصوماليين بالخارج مع قرنائهم بالداخل (الاهتمام بالحالة في أوغندا...)، كما أن هناك متابعة لحركة السلطة الصومالية في اتجاه دول عربية مثل مصر والسعودية والإمارات، والحلف الإسلامي. لا مجال هنا لمزيد من طرح التفاصيل، لكنها فرصة للاقتراب من بلد يعود للتطلع إلى المنطقة العربية، لأنها الحديقة الخلفية شديدة الأهمية لنا في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، خاصة أنه يرد الإحساس دائماً أن المحاولات لم تتوقف لجعل الصومال دولة أفريقية فقط، وليست شرق أوسطية عربية، وهذا ما جربناه في السودان وجنوب السودان، وإن كانت المزاحمة التركية المهاجمة تشده إلى الشرق أوسطية بهمة واضحة. نعود لنقول أيضاً إن الصراع الوطني والإقليمي، بات جزءاً لا يتجزأ من الصراع العالمي العائد بقوة مرة أخرى إلى أفريقيا.