يُقدّر اليوم عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر في العالم بما بين 700 مليون و800 مليون إنسان. أي أن نسبة الشريحة التي تُسمى «الأكثر فقراً» تتراوح بين 10 و15 في المئة من سكان المعمورة. ولوهلة قد يبدو الأمر مكسباً تاريخيّاً ضخماً، إذ للمرة الأولى في عمر الإنسانية المدوّن ينخفض الفقر إلى هذه النسبة، فيما تنكمش وتقلّ كثيراً المجاعات التي كانت دائمة ودورية في ما مضى، ليحل محلها نقص التغذية فحسب. ولكن المكسب المذكور هو نفسه ما يقود أيضاً إلى الفضيحة التي تطال إنسانيتنا: فإذا كان في وسع عالمنا، بسبب تقدمه التقني وثرائه، أن يخفّض عدد من هم أكثر فقراً إلى تلك النسبة، وأن يستبدل المجاعة بنقص التغذية، فلماذا لا يحول هذان التقدم والثراء إلى القضاء المبرم على نقص التغذية وعلى بقاء هؤلاء (الـ10 إلى 15 في المئة) دون خط الفقر؟ أغلب الظن أن هذا الاحتمال بات ممكن التحقيق، إلا أن أنانية القلة المتحكمة بتوزيع الثروة تحول دون ذلك. بلغة أخرى، فإن ما نعيشه اليوم أفضل بلا قياس مما عرفته البشرية طوال تاريخها، وهذه مسألة ينبغي ألاّ توضع بين قوسين وألا يُستهان بها، انجرافاً وراء تشاؤم أو عدمية تاريخيين. ولكننا، في المقابل، نملك من الشروط ما يجعل إنسانيتنا أفضل حالاً بكثير مما هي عليه. هذا الموضوع كان بالضبط ما تصدّى له مؤخراً الفيلسوف والأكاديمي الأميركي «لايف وينر» في مقالة حملت عنوان «هل تتحسّن أحوال الإنسانيّة؟»، نشرتها «نيويورك تايمز» يوم 15 فبراير الجاري. فهو يلاحظ، بالعودة إلى الطاعون الذي ضرب مدينة لندن في 1665، أنّ الجهل ونقص التقدم التقني هما ما كانا يتسببان في الفتك بالبشر، وهو ما انتهينا منه ليحل محله تهديد من نوع آخر ناجم عن مدى التقدم العلمي الذي أحدثه القرن العشرون. فهذا الأخير مثّل «بداية انتقال الإنسانية من أزمة جهلها القديم إلى أزمة اختراعاتها الحديثة». وما صعود المسألة البيئية غير تعبير مكثّف عن الانتقال هذا، وعن نوع المشاكل الجديدة التي يطرحها. بيد أن التغلب على الأزمة الراهنة يرتبط، بحسب «وينر»، بما يختاره البشر أنفسهم. فالطاقة يمكن أن تكون مصدر ثراء وازدهار بقدر ما يمكن أن تكون مصدراً لتدمير العالم. وفي هذه الحدود يمكن التفاؤل بأن الاستخدام الأول هو الذي رجح، تماماً كحال التقنية الحربية التي لم ينجم عنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أي استخدام للسلاح النووي أو أي انفجار لحرب عالمية ثالثة. وعلى الرغم من أن الحروب لا تزال متفشية في العالم، أقله في الأجزاء غير الأوروبية، فإن أعداد القتلى باتت أقل بلا قياس من ذي قبل. وهذا «القانون» إنما يعمل على أصعدة كثيرة أخرى: فقد زاد متوسط العمر عما كان في أي حقبة سابقة، وقلّت نسبة النساء اللواتي يواجهن الموت عند الإنجاب، مثلما تراجعت نسب الأطفال الذين يعانون سوء التغذية. لكنْ «إذا ما نظرنا بالعينين معاً»، وجدنا أنّ ذلك كله لا يلغي أننا لا نزال نعيش في عالم كريه لجهة الفقر والحرمان والعنف، وأن البشر لا يتعلمون إلا بعد فوات الأوان، وبعد وفاة الآلاف وأحياناً الملايين. غير أن المطلوب اليوم، وفي ظل ما بات متاحاً لنا من معارف وتجارب وتقدم تقني، أن نتعلم بأسرع مما كنا نفعل، وأن نتصدى بقوة أكبر للأسباب التي تولّد الفقر والعنف. وهذه الأفكار إذا ما صحت عموماً، فكم تبدو صحتها كبيرة في هذا الجزء من العالم الذي نعيش نحن فيه؟ ---------- كاتب ومحلل سياسي - لندن