يعتقد الواقعيون في العلاقات الدولية أن اللاعبين الصغار ليس لديهم مجال كبير للمناورة في عالم يهيمن عليه اللاعبون الكبار، غير أن سلوك كوريا الشمالية الأخير يبدو أنه يفند هذا الرأي ويدحضه، ولاشك أن أزمة كوريا الشمالية الأخيرة تقدم عدداً من الدروس حول العلاقات بين القوى العظمى، وأيضاً بشأن أمن شرق آسيا، ومن هذه الدروس: أولًا- ينبغي التأكيد على أن أحداً لم يخرج من هذه الأزمة فائزاً بالنظر إلى تردي الوضع الأمني في شمال شرق آسيا، ولكن الصين والولايات المتحدة هما الخاسران الأكبر، على كل حال، فالعديد من المراقبين يرون أن بكين لم تلعب الدور المتوقع منها كقوة مسؤولة لأنها اختارت تقديم مصلحتها الذاتية على المصلحة العامة المتمثلة في منع الانتشار النووي، والواقع أنه من الممكن تفهّم أن الصين إذا ضيّقت الخناق على كوريا الشمالية فإن ذلك سيؤدي إلى انهيار نظام بيونج يانج بسرعة، ما سيؤدي بدروه إلى تدفق جماعي للاجئين على الصين وإعادة توحيد الكوريتين تحت نفوذ أميركي، ولهذا السبب ترفض الصين شل اقتصاد كوريا الشمالية. ولكن بكين ستدفع أيضاً ثمناً بسبب حمايتها المستمرة لكوريا الشمالية، ذلك أنه في حال تم نشر نظام «ثاد» المضاد للصواريخ في كوريا الشمالية، فإن شهر العسل الصيني- الكوري الجنوبي سينتهي، وعلاوة على ذلك، فقد انتهز رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي هذه الفرصة للترويج لتعديل دستوري وسياسة دفاعية أكثر حزماً تعكس رغبة طوكيو في تأكيد قوتها إقليمياً، والأرجح أن الصين هي الهدف الحقيقي لهذه السياسة اليابانية الجديدة، وهكذا، وفي ظرف وجيز، قد تجد الصين نفسها في مواجهة تحديات استراتيجية ودبلوماسية وأخلاقية صعبة للغاية. غير أن التقدم النووي الذي حققته كوريا الشمالية يمثل أيضاً إخفاقاً لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، لأن إدارة أوباما فوّضت مهمة نزع أسلحة كوريا الشمالية للصين، فنظراً لأنها تعتقد أن بكين تمتلك مفتاح المشكلة الكورية الشمالية، اختارت واشنطن تحويل كل المسؤولية إليها والانتظار إلى أن تنهار بيونج يانج أو تتخلى عن سياساتها المارقة، والحال أن الولايات المتحدة، باعتبارها زعيمة العالم، كان عليها أن تولي اهتماماً أكبر لهذه المشكلة الأمنية الخطيرة، فمن غير المسؤول أن نتوقع من الصين حل المشكلة من دون أخذ بواعث قلقها هي في عين الاعتبار. ولعل «الصقور» في واشنطن سعداء الآن على اعتبار أن الأزمة توّفر تبريراً إضافياً لسياسة «الاستدارة» نحو آسيا المثيرة للجدل، غير أنه أياً تكن المكاسب التي ستحققها الولايات المتحدة هناك، فسيكون ثمة في المقابل شك وتوتر متزايدان بين الولايات المتحدة والصين. ثانياً- ينبغي ألا يكون ثمة شك بشأن حقيقة أن الصين وكوريا الشمالية ليستا حليفتين. فالمراقبون والصحافيون الغربيون عادة ما يصفون الصين على أنها «الحليف الوحيد» لكوريا الشمالية، والحال أن كوريا الشمالية ليست دولة تابعة للصين ولا تكترث لرأي بكين. وفي المقابل، فإن الاستياء الصيني من كوريا الشمالية يتزايد، وكثيرون يعتبرون أن بيونج يانج باتت عبئاً ثقيلًا على بكين وجاراً مزعجاً، وليست صديقاً حميماً، بالنسبة لها. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن الجهود التي بذلها الدبلوماسي المخضرم «وو أدوي» في اللحظات الأخيرة من أجل إقناع بيونج يانج بالعدول عن إطلاق القمر الصناعي باءت بالفشل لأن الكوريين الشماليين يكرهون أن يلقي عليهم الصينيون محاضرات. وهكذا، مضت بيونج يانج قدماً في تنفيذ مخططها متحديةً المجتمع الدولي، وخاصة الصين، وأطلقت القمر الصناعي عشية رأس السنة الصينية الجديدة، والأرجح أن الشقاق والاختلاف في المواقف بين الصين وكوريا الشمالية لن يزداد إلا اتساعاً. وأخيراً، يمكن القول إن كثيرين قللوا من شأن قدرة «كيم يونج أون»، ذلك أنه لا أحد تقريباً كان يتوقع بقاء الديكتاتور الشاب عديم التجربة في السلطة لوقت طويل، غير أنه بعد أكثر من أربع سنوات على خلافته والده، يبدو أن «كيم» قد قوّى موقفه في السلطة، ولأنه يدرك جيداً الانقسام الأميركي- الصيني، فقد مضى قدماً في تنفيذ برنامج بلاده النووي، وبينما يمارس الرئيس أوباما «الصبر الاستراتيجي»، ويشدد الرئيس الصيني «شي جينبينغ» على ضرورة «الاستقرار» في شمال شرق آسيا، يواصل «كيم» تطوير التكنولوجيا النووية وتعزيز وضعه داخلياً، والآن وبعد نجاح التجربة النووية وإطلاق القمر الصناعي، يذهب بعض المراقبين إلى أن «كيم» قد يوجه تركيزه إلى الاقتصاد والسعي لتطبيق سياسته «بيونغجين» (التطوير المتزامن للاقتصاد والبرنامج النووي)، إلا أنه من شبه المستحيل أيضاً الجزم بشأن ما يدور في ذهن «كيم»، لأن الشيء الوحيد الذي يمكن التنبؤ به بشأن كوريا الشمالية هو عدم إمكانية التنبؤ بها! إن أزمة كوريا الشمالية تكشف المشاكل التي تواجه المنطقة، وبينما يخطط المجتمع الدولي لفرض عقوبات جديدة يشكك البعض في جدواها وفعاليتها، يتعين على كل اللاعبين اغتنام الفرصة لإعادة التفكير في هذه المشاكل الجوهرية ومضاعفة الجهود من أجل تعزيز الأمن الإقليمي. جيكون جو: أستاذ العلوم السياسية بجامعة «باكنل» الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»