أضحى التهديد الإرهابي في صلب الاهتمام الإعلامي والسياسي والاستراتيجي الفرنسي. ولكن كيف له أن يكون غير ذلك؟ فهجمات السابع والتاسع من يناير 2015 (الهجمات على مقر مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة ومتجر يهودي للمواد الغذائية) وضحاياها الخمس عشرة، وهو أكبر عدد ضحايا عملية إرهابية حتى حينه على التراب الفرنسي منذ خمسين عاماً، شكّلت ضربة قوية للبلاد هزت كيانها وأثرت في نفسية مواطنيها تأثيراً بالغاً. هجمات ردت عليها البلاد بخروج قرابة أربعة ملايين مواطن إلى الشارع للتعبير عن رفضهم الاستسلام للخوف. ولكن في الثالث عشر من نوفمبر، أُزهقت أرواح مئة وثلاثين شخصاً في هجمات إرهابية أخرى، في تصعيد واضح في مستوى الرعب وقد أعقبه تصعيد في ردود الفعل. وهكذا، أضحى الإرهاب هو الموضوع الأول بالنسبة لوسائل الإعلام التي تزايد عدد مشاهديها ومستمعيها وقرائها بشكل كبير، وكذا بالنسبة للمسؤولين السياسيين الذين يتعين عليهم أن يستجيبوا لطلب الجمهور للحماية والأمن. وبشكل عام، يمكن القول إن رد فعل الفرنسيين على هذه المآسي تميز بقدر كبير من التعقل وضبط النفس، ولكنهم يشعرون أيضاً بالقلق ويحتاجون للتطمين. غير أنه يمكن للمرء أن يتساءل هنا عما إن كنا -كفرنسيين- نفرط في الحديث عن الإرهاب -على رغم اهتمام الجمهور الواضح بهذا الموضوع؟ وما إن كنا، من خلال قيامنا بذلك، نسقط في الفخ الذي نصب لنا؟ في 1962، كتب المفكر الفرنسي الكبير ريمون آرون يقول: «إن التأثيرات النفسية للإرهاب أكبر بكثير من نتائجه المادية الخالصة». والواقع أن كلام «آرون» يبدو صحيحاً وصالحاً أكثر في زمننا هذا، زمن القنوات الإخبارية التي تعمل على مدار اليوم، لأن ذلك بالضبط هو ما يسعى إليه أولئك الذين نفذوا هجمات إرهابية أو يعتزمون تنفيذ أخرى: التأثير في النفوس وفرض أجندة الرعب. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ألسنا نواجه خطر أن يؤدي تركيزنا المفرط على تهديد الإرهاب إلى تقوية الإرهابيين، الذين سيعلنون «النصر» بالنظر إلى حجم ردود الفعل التي يثيرونها؟ وقد يسمح لهم ذلك بتعزيز عمليات التجنيد التي يقومون بها. وألا ندفع، من خلال ردود فعلنا تلك، البعض، وخاصة من ضعفاء النفوس، إلى محاولة تنفيذ عمل إرهابي من باب التقليد والمحاكاة؟ وألسنا نغذي بذلك جواً تطغى عليه مشاعر الخوف والقلق يؤثر على معنويات البلاد والنشاط الاقتصادي جراء العيش في خوف دائم من ضربات جديدة قد تحدث في أية لحظة؟ فنمنح بذلك مكسباً رمزياً للإرهابيين الذين سيكونون استطاعوا التأثير فينا؟ لا نقصد بذلك القول إنه لا ينبغي أن نعير التهديد الإرهابي انتباهنا، فهذا أمر أساسي ومطلوب. ولكن السؤال هو: هل ينبغي أن نجعل منه عنصراً مهيمناً على النقاش العام لهذه الدرجة؟ ألا يجدر بنا أن نتصدى له ونتحدث أقل؟ وألسنا، من فرط تركيزنا على الإرهاب، نهمل التفكير في مواضيع بالقدر نفسه من الأهمية إن لم يكن أكثر مثل التطورات الدولية الكبرى، ومكانة فرنسا في العالم، وهامش التحرك المتاح لها الذي لا يمكن اختزاله في محاربة الإرهاب؟ الواقع أن ثمة أسباباً أخرى للوفيات لا تثير فينا القدر نفسه من التعبئة. فهناك 130 شخصاً يموتون يومياً بسبب الكحول. وفي العام الماضي، مات 412 شخصاً برداً في الشوارع. كما أن ثمة 3500 شخص يموتون سنوياً في حوادث المرور. صحيح أنهم يقضون في حوادث عرضية، ولكن عدداً كبيراً منهم يموتون بسبب «الانحراف الطرقي». وكل سنة، يموت 150 شخصاً بسبب العنف العائلي. كما يموت طفلان كل يوم ضرباً من قبل آبائهم. وكل هؤلاء الضحايا لا يثيرون فينا القدر نفسه من التعبئة. ولاشك أن سبب ذلك هو أن أولئك القتلى لا يُقتلون نتيجة عمل سياسي مقصود يريد استهداف أسس مجتمعنا. ونتيجة لذلك، هناك تقبل اجتماعي أكبر بكثير لهذا النوع من العنف الذي يتسبب مع ذلك في عدد أكثر من الضحايا كل سنة ومنذ عدة عقود. ولاشك أن الإرهابيين يستطيعون الضرب في أي مكان وفي أي لحظة، غير أنه ينبغي ألا نستسلم لهم وإنما يتعين علينا إعداد العدة للتصدي لهم ومحاربتهم، ومواصلة العيش أو التعايش مع هذا التهديد مثلما نعيش مع تهديدات أخرى (الأمراض، الحوادث.. إلخ) عبر توخي الحيطة وأخذ الحذر، وليس الفزع والاستسلام للخوف. إنني أعيش وأعمل في الدائرة الحادية عشرة من باريس، المكان الذي وقعت فيه هجمات نوفمبر، ولكنني أخاف على أبنائي حين يضطرون لقطع مسافة طويلة بالسيارة أكثر من خوفي عليهم إذا أرادوا الذهاب إلى إحدى حانات الحي رفقة أصدقائهم. وخلاصة القول إن الهجمات الإرهابية، على فظاعتها ورعبها، لا تمثل تهديداً لمجتمعنا إلا إذا استسلمنا للخوف. ولذلك، فإنه من غير المفيد الإفراط في التركيز على هذا التحدي الاستراتيجي حتى لا نهمل التحديات الأخرى التي تواجهنا، الأمر الذي سيرقى -إذا ما فعلنا- إلى الاستسلام للدرامي واللاعقلاني وإغفال البنيوي والعقلاني.