إذا كان عالمنا العربي يسعى لتحقيق أي نهضة أو ريادة، فليس أمام دوله سوى الإنفاق بسخاء على التعليم، على نحو ما فعلته دول العالم الأول وما تفعله اليوم الدول الآسيوية الصاعدة. وحينما نأتي على ذكر التعليم، فإننا لا نعني أي تعليم، وإنما التعليم الحديث الذي يستجيب لمتطلبات العصر، مع التركيز على جودته وتوفيره بمستوياته المختلفة للجميع. وهنا تبرز الرياضيات كمادة محورية يجب أن نوليها الاهتمام الأقصى على اعتبار أنها أس كل العلوم، ابتداء من الكيمياء والفيزياء والأحياء والجيولوجيا والهندسة، وانتهاء بعلوم الإحصاء والفلك والمحاسبة والاقتصاد، وحتى الإدارة، بل على اعتبار أنها أيضاً أول علم يستوفي شروط الحصول على لقب «علم» لجهة الدقة والموضوعية في زمن مبكر يعود إلى بداية القرن السادس قبل الميلاد حينما وضع الرياضي الإغريقي فيثاغورس نظريته القائلة: «مربع وتر المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين المقابلين». أضف إلى ذلك أنه أول علم يتصف بالحياد التام والصرامة والابتعاد عن النوازع الوجدانية والعاطفية والدينية، «فلا يمكن القول مثلاً إن حساب المتتاليات أو حساب التفاضل هو إسلامي أو يهودي أو بوذي». لقد عرفتْ المجتمعات الحية مدى أهمية الرياضيات في تربية العقول وتحفيزها على الإبداع والابتكار المفضي إلى التقدم والريادة، فاهتمت بها وطورتها وحدثت مقرراتها وطرق تدريسها، فلم تعد بالنسبة للمتلقي مجرد أرقام صماء تُجمع أو تُطرح أو تُضرب في بعضها، وإنما صارت أيضاً سبيلاً لتعليم الفلسفة والمنطق للناشئة وغرس القيم النبيلة في نفوسهم. وفي هذا السياق قرأت مؤخراً ما كتبه أحدهم من أنّ الرياضيات علّمته الكثير من القيم بطريقة غير مباشرة مثل: أنّ بعض «الكسور» لا تُجبر، وأن هناك شيئاً اسمه «ما لا نهاية»، فلا يجوز أن يكون المرء محدود الفكر والطموح، وأن لكل «مجهول» قيمة فلا يصح أن يحتقر الواحد منا شخصاً لا يعرفه، وأنه بالإمكان الوصول إلى «الإجابة الصحيحة»، أو الهدف بأكثر من طريقة فلا داعي لليأس، وأن «العدد السالب» كلما كبرت أرقامه صغرت قيمته كالمتعالين على الناس كلما ازدادوا تعالياً صغروا في عيون غيرهم. هكذا تُدرس مادة الرياضيات في المجتمعات الحية، مشفوعة بالرسوم البيانية والتمارين التي تغرس في العقول بيانات وأرقاماً عن الدخل القومي والسياحة والصادرات والاستثمارات، بينما هي في مناهجنا العربية لا تزال أسيرة تمارين من قبيل «اشترى تاجر عشرة صناديق من البرتقال بقيمة كذا للصندوق وباع كل صندوق بكذا من الدراهم فكم كان ربحه؟». على أن الإنصاف يدعونا إلى القول إن مناهج تدريس الرياضيات، في منطقة الخليج على الأقل، قد طرأ عليها تغييرات مشهودة فباتت مختلفة عن تلك التي درسناها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ويمكن القول إن هذا انعكس إيجاباً على المواد العلمية الأخرى، وبالتالي تمكن بعض شبابنا من التحليق عالياً مع المخترعين ورواد العلوم الأجانب على نحو ما حدث مع الطالب السعودي عبدالجبار عبدالرزاق الحمود الذي أطلقت وكالة «ناسا» الأميركية للفضاء اسمه (الحمود) على كوكب جديد تم اكتشافه مؤخراً تقديراً منها لأبحاثه الرياضية والفلكية. ولئن كانت سنغافورة في مقدمة دول العالم التي يُشار إليها بالبنان لجهة مناهجها المتطورة في علوم الرياضيات وقدرتها على تحويل الرياضيات من علم جاف إلى علم مستساغ ومقبول لدى الصغار، فإن الهند تعتبر اليوم في مقدمة دول العالم الثالث التي بدأت تولي اهتماماً خاصاً بتعليم الرياضيات الحديثة لطلبتها منذ أكثر من عقدين، والدليل هو تفوقها المذهل في صناعة البرمجيات التي تدر عليها سنوياً بلايين الدولارات، وظهور عقول رياضية هندية تسعى مؤسسات وشركات دول العالم الأول إلى اختطافها وتوطينها عبر منحها الامتيازات والرواتب الضخمة على نحو ما حدث مع الهندي «سوندار بيشاي» الرئيس التنفيذي لشركة «جوجل» الذي يتقاضى راتباً يصل إلى مائة مليون دولار في العام، أي أكثر من راتب الهندي الآخر «ساتيا ناديلا» رئيس شركة «ميكروسوفت» البالغ 85 مليون دولار. وبطبيعة الحال فإن الاسمين الهنديين السابقين ليسا سوى عينة من الهنود الذين برعوا في الرياضيات والعلوم ذات الصلة فتم استقطابهم للعمل في الولايات المتحدة، إذ تشمل القائمة أسماء أخرى مثل: «إنديرا نويي» رئيسة شركة بيبسي كولا، و«شانتاو نارايين» رئيس شركة أدوبي، و«أجاي بانجا» رئيس شركة ماستركارد و«فيكرام بانديت» رئيس مجموعة سيتي جروب المصرفية. وأستطيع أن أجزم أن الهنود بما فيهم الطبقات الفقيرة الكادحة يحرصون حرصاً مضاعفاً على تعليم أبنائهم الرياضيات المتطورة لإيمانهم بأن ذلك استثمار للمستقبل وتعبيد للطريق أمام فلذات أكبادهم نحو حياة أفضل، وقد رأيت ذلك رؤية العين من خلال عضويتي في مجلس إدارة مدرسة «كومون» بالبحرين، وهي مدرسة تدرس الرياضيات وفق الطريقة اليابانية الحديثة لمختلف الأعمار ولها فروع في دول كثيرة، حيث لاحظت أن جل المنتسبين لها هم من أبناء وبنات الأسر الهندية العاملة في دول الخليج من ذوي الدخول البسيطة، فيما لا يشكل أبناء الأسر الخليجية سوى أقل من 10 بالمائة من إجمالي المنتسبين، ناهيك عن أن جل المتفوقين في هذه المدرسة والحاصلين على الجوائز هم من الفئة الأولى.