التطوّرات في سوريا تطرح للمرّة الألف التساؤل عن أهداف الولايات المتحدة والشروط التي وضعتها لـ«التحالف الدولي» لمحاربة الإرهاب، وبالأخص عن الاستراتيجية التي رسمتها لتلك الحرب. فروسيا وحليفاها النظام السوري وإيران قلبوا المعادلة ويوشكون أن يحققوا أهدافهم كاملة، فيما تبدو واشنطن غير مستاءة بل متكيّفة مع تقدمهم، على رغم أن سير الأحداث يعاكس كل الخطط التي أعلنتها سابقاً، ويناقض المعايير التي ألزمت بها حلفاءها العرب والغربيين، وأهمها عدم التدخل ضد نظام بشار الأسد وعدم التنسيق معه والفصل بين محاربة «داعش» والصراع الداخلي في سوريا، على أن يكون هناك حل سياسي مواكب لضرب الإرهاب. وكان العديد من الحلفاء نبّهوا منذ اليوم الأول إلى استحالة التخلص من الإرهاب بوجود نظام الأسد، مستندين تحديداً إلى إعلان واشنطن مراراً أن هذا النظام هو مَن «اجتذب داعش» إلى سوريا. وسواء اعترفت أميركا أم لم تعترف بأن التدخل الروسي نسف الأسس التي بنت عليها استراتيجيتها، فإن النتائج على الأرض ترجّح أحد احتمالين: إمّا أنها تعرّضت لخديعة روسية، أو أن اندفاعها للحصول على الاتفاق النووي جعلها تقدّم تنازلات لإيران وروسيا في سياق المفاوضات. أما «التنازلات» فلا أدلة ملموسة لإثباتها ولكن الإشارة اليها تكرّرت كثيراً في الصحافة الأميركية، كما أن مواقف إدارة أوباما وغموضها وتناقضاتها تدفع إلى الاشتباه بوجود خيارات أو التزامات غير معلنة. وأما «الخديعة» فأصبحت الآن حديثاً شائعاً، ولكن يصعب تصديق أن الخدعة نفسها يمكن أن تتكرر وأن روسيا تتوصّل دائماً إلى مبتغاها فيما ترضى أميركا- أوباما بأن تكون الطرف المخدوع وتُنعَت بالضعف والتخاذل. في كل الأحوال كان لافتاً أن واشنطن أصبحت أخيراً أكثر استهانةً بحقوق الشعب السوري وتضحياته، وبحلفائها الإقليميين الذين لهم، أكثر مما لإيران، مصالح في سوريا والتزامات سياسية وإنسانية تجاه شعبها. لكن أخطر ما بلغته لعبة الألغاز الأميركية- الروسية أنها تكاد تدفع التوتر على الحدود السورية- التركية إلى شفير الحرب، بل تكاد تدفع حلفاء أميركا إلى خيار الحرب دفاعاً عن مصالحهم. ففيما كانت دول «التحالف» وحلف الأطلسي تناقش في بروكسل استعداداتها للحملة على معقل تنظيم «داعش» في الرقّة، كان الروس وحلفاؤهم يتعجّلون اجتياح مناطق المعارضة لفتح طريق إلى مشارف الرقّة واستباق حملة «التحالف»، بل كانوا يتحركون بتنسيق ميداني مع أكراد «حزب الاتحاد الديمقراطي». وسواء كانت مفارقة أو خديعة أيضاً، فإن هؤلاء الأكراد تلقوا تسليحاً من الأميركيين الذين يعوّلون عليهم لمقاتلة «داعش» برّاً، ولكنهم يعملون في الوقت نفسه ضد المعارضة وفقاً لخطط الروس وحلفائهم. ولم تتبرّع واشنطن بأي تفسير لهذا الالتباس، ولا سعت إلى طمأنة حليفها التركي على رغم أنه أفصح عن قلقه وغضبه وبالتالي عن استعداده للتحرك ضد الأكراد وإقليمهم الانفصالي الذي يهدد عملياً وحدة سوريا ولاحقاً وحدة تركيا. ووسط هذه التطورات المتسارعة وجدت الدول الداعمة للمعارضة نفسها، خصوصاً السعودية وتركيا، أن أميركا استدرجتهم إلى وضع ينذر بهزيمة شاملة للمعارضة بحيث تصبح أي مفاوضات جلسة استماع إلى املاءات الروس وحلفائهم كطرف منتصر. وفي المقابل، تحوّل عرض السعودية والإمارات المشاركة بقوات برية لتفعيل الحرب على «داعش»، إلى ذريعة لروسيا وإيران ونظام الأسد كي تنذر بنشوب «حرب عالمية»، كما وصفها رئيس الوزراء الروسي الذي حذّر أيضاً من «حرب باردة جديدة» بالنظر إلى تصاعد المواجهات في سوريا كما في شرق أوكرانيا. ولاشك أن موسكو ترغب في هذا التصعيد وتريد استخدامه لمساومة الغرب على ما تتطلّع إليه من مكاسب، ولكن فلاديمير بوتين استنتج أكثر من مرّة أن أميركا وحلفاءها الغربيين ليسوا مستعدّين لأي تنازلات في أوكرانيا وبالتالي فإنه لن يستطيع الذهاب أبعد في التصعيد لأن الحرب في أوروبا «ممنوعة»، ولذا قرر التدخل في سوريا علّه يستطيع طرح مساومة جديدة بالسعي إلى إحراج «الناتو» من خلال الضغط على تركيا. ما كان لهذه المواجهة، أو لمناخها على الأقل، أن تخيّم على الشرق الأوسط لو أن الولايات المتحدة كانت صارمة في توضيح أهدافها أو في احترام «الخطوط الحمر» التي تبادر إلى رسمها ثم إلى التراجع عنها. وحتى لو صحّ أنها ماضية في توريط روسيا فإنها تترك حلفاءها في مجازفات ليسوا مضطرّين لها.