في المشهد السوري المتفاقم بدا اللاجئ السوري كما لو أنه يعيش في برزخ لا حياة بعده ولا موت رحيم يرتجيه، أنه يموت كل يوم، وكلما تساقطت ثلوج الشتاء، ُيمني نفسه بالانتظار. وكل يوم يمر عليه ينتظر موته بين لحظة وأخرى، لدرجة أن دموع الأب التي تجري على خديه، والتي تعكس ضعفاً، وقلة حيلة تكاد تحفز مكانها نفقاً بلا سقف، عذاب يرتسم على الوجنتين دليل خوف وموت يتكرر كل يوم ألف مرة. فلم يرحمهم القريب ليتركهم في بيوتهم آمنين، ولم يرحمهم الغريب الذي لفظهم وتركهم على حدود مهجورة قاسية، ويتهمهم كل يوم بأبشع الاتهامات، وكأن هذا الغرب الذي يأسرنا بمنجزاته تخلى عن ثوب الإنسانية وانساق خلف ادعاءات مجحفة بحق هذا اللاجئ المغلوب على أمره، والذي يعاني ويلات التشرد والنزوح. وتأتي قوة عظمى بتاريخ دموي لا يشبه أي تاريخ آخر إلا المغول لتسهم في قتل هؤلاء البشر مع سبق الإصرار. كيف سيعيش هؤلاء، وكيف سيموتون فلم يعد شكل من أشكال الموت إلا كان محتضناً لهم، وكل أشكال المواساة لم تعد مجدية، وحتى الأخبار القادمة من هناك تخشى أن نغلق أمامها الأبواب، وفي هذه الحالة، ربما نصاب باللعنة، لعنة الخذلان لأمثال هؤلاء المكلومين المقتولين دون أن ترتفع أرواحهم خارج أجسادهم! والسؤال الذي يطرح نفسه: هل من حال أصعب وأقسى وأبشع من هذا اللاموت واللاحياة، إنه أشبه بالوقوف بين النار والجحيم، فالمنطقة الوسطى ضائعة من الخارطة أمام هؤلاء. كل كلمات الرثاء وقصائد الحزن والدعوات الليلية كسهام متجهة للسماء السابعة لم تعد ذات جدوى، ولم تواسِ كم المأساة الحقيقي الذي يعيشه هؤلاء كل يوم. فالوقت الذي يمر دون أن يبصر هؤلاء العزل حلًا لأزمتهم يخفف من معاناتهم، يفاقم من المأساة لتتمدد وتكبر وتتفرع جذورها لتغرب في قاع أراضي الأمة بأسرها. الأمة التي تتجدد هزائمها، كأنها قدر لا مفر منه، فالاستسلام والصمت حلان لكل هذا، ورغم هذا لا يلوح الحل، يلوح الصمت، ليتحول إلى فرصة حياة من نوع مختلف، فالأزمة التي يوغل العدد في تثبيتها بالأرض حتى لا تقوم لهذه الشعوب قائمة أو كأنها اختزلت مؤامرات التاريخ والجغرافيا في هؤلاء الذين يملكون أسراراً لا يعلموها، إلا بعد أن ثارت ثورتهم ليفضحوا كم الأحقاد المتراكمة على طول الساحل والتاريخ. هذه الأزمة لولاها لما كشفنا وجوه القبح عند إيران ومن والاها، وما تعلمنا أن الاستعمار لم ينظر لنا يوماً إلا عبيداً يستحقون طغاة من نوع بشار. وبين النار والنار ستكون هناك قصة أخرى تُكتب الآن أحداثها ونتائجها، ولا أحد يعلم متى تكون جاهزة للنشر والانتشار. وحتى يحين وقتها، فإن كثيراً من الشغب والموت اليومي ضيوف على كل من يتعبهم ضميرهم الإنساني وتعجز أيديهم عن رد كل هذا الظلم وهذه الوحشية.