إسرائيل لا تقبل الانتقاد، في الحقيقة، سواء أكان من صديق أو عدو، وحتى الانتقادات الطفيفة تعتبر تهديداً وجودياً يدفع المسؤولين الإسرائيليين إلى إطلاق وابل من الانتهاكات في محاولة إلى تكميم أفواه ومعاقبة المنتقدين، وفي ضوء المبادرات الجديدة التي يجري الحديث عنها في إسرائيل والولايات المتحدة، من قبل الكونجرس وبعض المشرعين على مستوى الولايات، فإن محاولات إسكات المنتقدين تهدد حرية التعبير والبحث عن السلام. وقد ظهر هذا الاتجاه المقلق خلال الأسابيع القليلة الماضية، عندما رد الإسرائيليون بعنف شديد على تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، «بان كي مون»، والسفير الأميركي في إسرائيل «دانييل شابيرو». وفي كلمته أمام مجلس الأمن الدولي، انتقد الأمين العام «المستويات غير المقبولة من العنف وسياق الاستقطاب الجماهيري» الذي ترسخ في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. وأدان الهجمات الفلسطينية على الإسرائيليين، وأصر على «أن القوة الكاملة للقانون يجب أن تطبق على كل الذين يقترفون جرائم، على أن يطبق نظام العدالة بمساواة على الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء». ولكن «بان» استطرد قائلاً: «إن التدابير الأمنية وحدها لن توقف العنف، ولا يمكنها معالجة الشعور الواضح بالتمييز واليأس الذي يدفع بعض الفلسطينيين»، لافتاً إلى أن الإحباط الفلسطيني يتزايد في ظل نصف قرن من الاحتلال، مثلما أظهرت الشعوب المقموعة على مر العصور، فهذه هي الطبيعة البشرية أن ترد على الاحتلال، الذي يعتبر حاضنة نشطة للكراهية والتطرف. وأعرب الأمين العام عن قلقه من الإعلانات الإسرائيلية الأخيرة حول التوسع الاستيطاني في الأراضي المحتلة، وحض الإسرائيليين على: وقف هدم منازل الفلسطينيين ومصادرة الأراضي الفلسطينية، وطالبهم بمعالجة الوضع الإنساني في قطاع غزة، واتخاذ خطوات ملموسة من أجل تحسين الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، مشيراً إلى أن كل هذه السلوكيات صعّبت تحقيق السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وعلاوة على ذلك، عرض «بان» سلسلة من الخطوات التي يتعين على الفلسطينيين اتخاذها لإنهاء الانقسامات، وترتيب البيت الداخلي، وإنهاء التحريض ضد إسرائيل. وفي خطابه أمام «مركز أبحاث إسرائيلي»، كرر السفير «شابيرو» بعض مخاوف بان، قائلاً: «إننا نشعر بالقلق والإرباك بسبب الاستراتيجية الإسرائيلية بشأن المستوطنات»، وأضاف: «إن الحكومة الحالية والحكومات الإسرائيلية السابقة أعربت مراراً وتكراراً عن تأييدها لحل الدولتين من خلال المفاوضات، وهو حل يتضمن الانفصال والاعتراف المتبادل، وعلى رغم ذلك سيصبح الانفصال أكثر صعوبة بكثير إذا كانت إسرائيل تخطط لمزيد من التوسع والتمدد الاستيطاني». وانتقد «شابيرو» أيضاً الطريقة التي تحكم بها إسرائيل الأراضي المحتلة، مؤكداً أن «إسرائيل ذهبت بعيداً في حذرها في الضفة الغربية من دون رقابة، ومن دون إجراء تحقيقات، في وقت تبدو فيه السلطات الإسرائيلية تنتهج سياسة الكيل بمكيالين في الالتزام بحكم القانون داخل الضفة الغربية، واحد للإسرائيليين وآخر للفلسطينيين». وبالطبع كانت ردود الفعل الإسرائيلية على كل من «بان» و«شابيرو» حادة بصورة متوقعة، وتم اتهام «بان» بانتهاج «ازدواجية المعايير»، إذ قال نتنياهو إن الأمم المتحدة فقدت حياديتها و«قوتها الأخلاقية»، واتهم «بان» بأنه قدم «مبرراً للإرهاب»، ووصف أيضاً نتنياهو تصريحات «شابيرو» بأنها «غير مقبولة». وتأتي كل ردود الفعل المفرطة هذه على الانتقادات على خلفية التحركات الخطيرة التي تقوم بها إسرائيل وداعموها في الولايات المتحدة ليس فقط بهدف تشويه ومعاقبة منتقديها سياسياً، ولكن في بعض الأحيان أيضاً بما هو أبعد من ذلك من خلال جعل الانتقادات غير مشروعة! وفي إسرائيل، تم اتخاذ إجراءات لمعاقبة المعلمين والفنانين، ويدرس الكنيست سلسلة من الإجراءات وتمرير قانون جديد يستهدف المنتقدين المحليين في محاولة لوضع قائمة سوداء لـ«الخائنين»! أما في الولايات المتحدة، فقد أصدرت وزارة الخارجية إرشادات حول معاداة السامية، تتضمن من بين أشياء أخرى «الكراهية ضد اليهود والمؤسسات اليهودية والمنشآت الدينية»، وتمضي أيضاً في طريق خطر، حيث تعرف معاداة السامية على أنها «تطبيق معايير مزدوجة بمطالبة إسرائيل بسلوك غير متوقع من أي دولة ديمقراطية أخرى». ومرر عدد من الحكومات أيضاً قوانين تمنع جهود المطالبة بالمقاطعة والمعاقبة وسحب الاستثمارات من إسرائيل بسبب معاملة السلطات الإسرائيلية للفلسطينيين. وبالطبع سيكون تأثير كل هذه التدابير هو تكميم أفواه المنتقدين ومنعهم ليس فقط من التعبير بحرية عن آرائهم، ولكن أيضاً عن السعي إلى تغيير السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بصورة سلمية.