درج بعض المسؤولين السياسيين والمثقفين على مطالبة فرنسا بالكف عن أن تكون لها علاقات مع هذا البلد أو ذاك، بدعوى أنه لا يتقاسم معها ذات القيم والمعايير. حدث ذلك قبل المنعطف المشهود في العلاقة مع موسكو، وبعد هجمات 13 نوفمبر، حيث ارتفع بعض الأصوات، في وسائل الإعلام وفي المشهد السياسي، مطالباً بتجميد العلاقات مع روسيا، بحكم الطابع السلطوي والقمعي لنظام بوتين. ومثل هذا من المعهود أيضاً سماع أصوات من يستنكر الانخراط في علاقات وثيقة مع الصين، بدعوى أن ذلك يأتي أحياناً كنوع من التضحية بمبادئنا لتحقيق مصالح تجارية. وأقرب من ذلك، أدان البعض بشدة زيارة فرانسوا أولاند إلى كوبا، باعتبارها مكافأة سابقة لأوانها، في حين أن النظام هناك ما زال بعيداً عن الجنوح لتبني الليبرالية. وهنالك احتجاجات أخرى تتردد أيضاً بانتظام ضد المبادلات مع إيران. بل إن العلاقات مع بعض الدول العربية تتعرض أحياناً للنقد، من طرف ذات الأصوات. وكذلك الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع نظم إفريقية، يتبنى بعض قادتها وسائل مثيرة للجدل في ممارسة الحكم، يتعرض هو أيضاً للنقد الشديد. وفي مقدورنا تعداد الكثير من الأمثلة والنماذج الأخرى السائدة في هذا المعنى. وكل هذا يمكن الاستماع إليه، ولكنه أيضاً يطرح سؤالاً في العمق: أليس في مقدور فرنسا إقامة علاقات سوى مع الدول التي تتشارك معها في نسقها السياسي؟ في هذه الحالة سيكون عليها الاكتفاء من العالم بعلاقاتها فقط مع الدول السبع والعشرين الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي! ويمكن أن نضيف إليها أيضاً كلاً من سويسرا، والنرويج، والولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وأخيراً اليابان. ولكن ليس كل اختلاف أو خلاف مدعاة لعدم الدخول في شراكات وعلاقات، ولنتذكر هنا أنه مع كل شيء، وعلى رغم الطابع الكارثي لحرب العراق في 2003، فقد احتفظت فرنسا بعلاقاتها المتميزة مع الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال فليس في مقدور فرنسا الاقتصار في علاقاتها على الدول المشابهة لها في كل شيء. ففي عالم أقل ما يمكن أن يوصف به هو أنه معولم، فليس الدخول في علاقات مع بلد ما دليل موافقة بالضرورة على ممارسات نظامه. وإنما في الأمر فقط أخذاً في الاعتبار بالأمر الواقع وبحقائق المشهد الدولي القائم. ومَن ينتقدون علاقات باريس مع الدول غير الغربية يريدون في الواقع، عن قصد أو عن غير قصد، تقليص هوامش تحرك الدبلوماسية الفرنسية، بحصرها في نطاق تحرك غربي، بشكل حصري. والمفارقة أن هؤلاء المنتقدين أنفسهم لا نسمعهم يوجهون ذات المآخذ للولايات المتحدة، بسبب انخراطها في علاقات قوية جداً مع ذات البلدان الأخرى غير الغربية. ولو اتبعت فرنسا الخط الذي يريده المنتقدون فلن يكون أمامها من خيار سوى الحد من تحركاتها على الساحة الدولية، والاكتفاء بالاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة، التي لا يتهمها أحد، مع ذلك، بانتهاج دبلوماسية مفتوحة الأفق! ويغيب عن أذهان هؤلاء أن فرنسا إن كانت دولة غربية، إلا أنه لا يمكن اختزالها في هذا التعريف أيضاً. فهي كذلك شريك طبيعي محتمل للبلدان الأخرى، وهذا ما يعطيها وزناً ومكانة خاصة على المسرح الدولي. وبطبيعة الحال فعلى فرنسا أن تكون لها علاقات مع بلدان لا تشبهها في شيء، ويتعلق الأمر هنا بكيفية فهم دواعي التعاون لتحقيق المصالح المشتركة، وفي أية لحظة تفترق هذه المصالح. وفي سنة 1964 حين اعترف الجنرال ديغول بالصين أثار ذلك غضب الولايات المتحدة، في وقت كان فيه النظام الصيني نظاماً شمولياً. ولكنه فكر يومها في أن هذا الموقف هو ما يحقق مصلحة فرنسا، لأنه يتيح لها أكثر من هامش تحرك لاتباع سياسة مستقلة، وفي النهاية، أكثر عملية وواقعية. وبطبيعة الحال فليست مقاطعة فرنسا للبلدان التي لا تتبنى نظاماً شبيهاً بنظامها السياسي هي أنجع طريقة لجعل تلك البلدان تتغير وتتطور. وليس بتقريعها أمام العالم يمكن دفعها إلى التحرك. وإذا كانت تريد أن يؤتي جهدها أكله في الدفع قدماً بحقوق الإنسان، فعليها عدم التعويل على مواقف سياسية استعراضية، موجهة للاستهلاك الإعلامي المحلي. وإن أردنا أن يكون صوت فرنسا مسموعاً في العالم، فعليها ألا تقتصر على الحديث مع الدول المشابهة لها حصراً. وإن أردنا تغيير العالم، فعلينا الانطلاق من حقائقه الماثلة أولاً وقبل كل شيء.