يحمل الدين الإسلامي العديد من المضامين المرتبطة بروافده الثلاثة وهي العقيدة والعبادات والمعاملات. وتلك المضامين، التي تتوزع على عشرات الفروع، تظهِر في تبلورها العام، المستند إلى النص والممارسة معاً، أن هناك سمات معينة يتميز بها التصور الإسلامي، تتمثل أساساً في أن الإسلام دين واقعي يتجه إلى المثال، ويوازن بين الضروريات والحاجيات والتحسينات، وينادي بضرورة الانتقال من الظني إلى القطعي في المعرفة والواقع المعيش، ويزاوج بين الصواب والإخلاص، وينزع إلى الكونية، بوصفه رسالة لكل العالمين. ولكن هذا التصور تراجع في واقع المسلمين الراهن، وبذلك خسروا كثيراً نهجاً وسطياً يعينهم على فهم الحياة الإنسانية، ويجعلهم قادرين على وزن ما يعرض من أفكار بميزان دقيق، دون تحجر يفضي إلى التخلف، أو تفلت ينتهي إلى الفوضى. وهذه العناصر في حاجة إلى شرح وتفصيل، وجميعها يستحق هذا، ولكنني سأركز هنا على قضية الصواب والإخلاص لأنها الأكثر إلحاحاً، نظراً لارتباطها بالمشروع السياسي للحركات الدينية، ما أخذها إلى العنف والإرهاب، إذ تتوهم أن «إخلاصها» لفكرتها كفيل بأن يعفيها من أن تجهد نفسها في البحث عن طريق صائب تسلكه في سبيل تطبيق هذه الفكرة، المرتبطة أساساً بغاية محددة هي حيازة السلطة والثروة. فالصواب، وفق نهج الإسلام وتعاليمه، يعني السير في اتجاه الحقيقة، وعمل ما ينفع، والإخلاص يعني أن تتعدى الغاية من هذا العمل حدود تحصيل عوائد دنيوية إلى ابتغاء مرضاة الله. وكون الإخلاص يفك الارتباط بين المنفعة الدنيوية الضيقة والصواب، يساعد من يتلمسون طريق الصواب على أن يسيروا فيه دون كلل أو ملل، فلا تحبطهم عوائد قليلة، ولا توقف سيرهم عقبات بفعل صراع المصالح بين البشر، في تكالبهم المرير على متع زائلة. ومن ثم فإن العلم في بحثه عن الحقيقة، والإبداع في تلمسه للجمال، يجب ألا يفتقدا الروحانية والخيرية التي يوفرها الدين والسمو الأخلاقي، إذ إن هذا الافتقاد من شأنه أن يوجه دفة العلم إلى جلب الشرور، وينزلق بالإبداع إلى تخريب الذوق الإنساني. وقد ضرب القرآن الكريم مثلًا مهماً في هذا الشأن، ليس من خلال تصويبه لآراء وتوجهات المسلمين في مواقف محددة تعرضوا لها في بداية الدعوة فحسب، بل أيضاً حين زاوج بين الإخلاص والصواب، مقدماً الأول على الثاني، حتى يوفر له عمقاً عقدياً يحميه من الانزلاق. ففي بداية الدعوة في مكة، قدم القرآن الجانب العقدي والأخلاقي للإسلام، فلما آمن به أناس وصدقوا، جاءت سور القرآن التي نزلت بالمدينة لتعلمهم كيف يحققون مجتمعاً فاضلًا، أي يقوم على علاقات صائبة ومقاصد نبيلة. وهنا يرى كثيرون أنه ما من مرة تزاوج فيها الإخلاص والصواب إلا وكانت فيها المنفعة والقوة والانتصار والتقدم، وعلى العكس، حين يغيب هذان العنصران، أو أحدهما، فإن الجهود تذهب سدى، بل قد ينحرف بعض من يخلصون لأفكارهم إلى القتل والتخريب، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً. وتقدير ما إذا كان منتج فكري معين، أو مسلك وتصرف محدد، يتوخى الإخلاص من عدمه، يجب ألا يترك للبشر، فهذا أمر بين الإنسان وربه. والقاعدة التي من الضروري اتباعها في هذا الشأن هي أن ما ينفع الناس روحياً وعقلياً ومادياً هو أمر محمود دون شك، ولا يخالف الدين في شيء، فكما سبق القول فإن الأديان شرعت لمصلحة الناس ولم يخلق الناس للدين. وإغفال هذه القاعدة، أو ادعاء البعض حقاً في الوصاية على الدين، وامتلاكهم وحدهم القدرة على التمييز بين ما «يخالف» الشرع وما «يوافقه»، هو السبب وراء ما تتعرض له أفكارهم من رفض وما يلاقيه أصحابها من مقاومة، لأنهم يعتقدون أن «إخلاصهم» لفكرتهم وغايتهم يعفيهم من أن يبحثوا عن الصواب!