يعتبر وعي الأمم والدول والشعوب بعناصر البناء الوطني الداخلي عاملاً مهماً في رقيها وتقدمها وقدرتها على بناء دول وطنية ناجحة. وفي مفاهيم علماء التنمية الوطنية يعد التخصص الحرفي مصدراً للحرف المطلوبة من قبل المجتمع المعني، بما في ذلك التخصص في مسائل البناء الوطني الداخلي. ويعتمد نجاح أي جهد بنائي وطني تنموي على توافر مختلف المهارات العلمية والحرفية التي تختلف كثيراً عما هو متواجد حالياً لدى أمم وشعوب ودول العالم النامي، أو حتى عن تلك التي عرفتها في الماضي. وكلما اتسع الجهد البنائي الوطني التنموي وتسارع، كلما أصبحت تلك الأمم بحاجة إلى التنمية الخاصة بالأجهزة التخصصية والتقنية في بعدها الأشمل المتعلق بتواجد العلماء المتخصصين الشغوفين بالبحث، والمتخصصين في حقول التخطيط للبناء الوطني، وفي الإدارة والسياسة، وفي التكنولوجيا المتقدمة، وفي الاقتصاد والتسويق والتصدير والاستيراد والعلاقات العامة والاجتماعية، والقانونيين والمحامين والمصممين والمديرين التنفيذيين وأساتذة الجامعات والمعلمين في المراحل الأدنى وغيرهم من الضالعين المتبحرين في مجالات الأبعاد المختلفة التي ترتبط بها مسائل البناء الوطني والتنموي الشاملة، والذين يعملون كمحركين لتلك الجهود. وهنا يقفز أمامنا سؤال يطرح نفسه بقوّة هو: لماذا لا يتواجد لدى أمم العالم النامي جميع تلك التخصصات في أوساط مواطنيها، بما في ذلك دول الخليج العربي، التي تعتبر أكثر تقدماً مقارنة بالعديد من دول العالم النامي الأخرى؟ فلكي تحقق تلك الدول بناءً وطنياً تنموياً عصرياً وشاملاً يعتمد أساساً على بناء قطاعات إنتاج وطني فعالة وذات كفاءة عالية، وذلك في سياق الابتعاد عن مصادر الدخل الأحادية المعتمدة على تصدير المواد الخام والمواد الأولية، فإنها تحتاج إلى سلسلة طويلة من التخصصات والخدمات الضرورية المهمة، كمراكز البحوث المتخصصة التي تجري في داخلها مختلف الدراسات والأبحاث المتعلقة بشتى جوانب البناء التنموي الوطني الداخلي الشامل، وإلى البرمجة ودراسة الحالات الدقيقة المتعلقة بها والتي يجريها مواطنوها وليس غيرهم. ومن جانب آخر فهي تحتاج إلى الخدمات التي تأتي في صيغ تتعلَّق بالاستخدام المناسب والأمثل للموارد والإمكانيات المتاحة، وبإنشاء خطوط الإنتاج والتنمية بأنواعها التي تتناسب مع ظروفها المختلفة، كالمالية والجغرافية والاجتماعية، ومع إمكانياتها المتعلقة بالتجميع والتخزين والتمويل والتوزيع والتسويق والتصدير والاستيراد والتنسيق. إن جميع ذلك يجب أن يتم في إطار شبكات متحدة من الإجراءات والتنظيمات الدقيقة التي يجب أن تخرج في صور من القوانين والتشريعات المنظمة والملزمة. وبدورها تحتاج عملية البناء الوطني التنموي الداخلي إلى الأجهزة الفنية التي يمكنها القيام بذلك ضمن حركة ثقافة وطنية خاصة بها، تخص كل دولة تنوي الشروع الجاد في تلك العملية. إن ذلك يمكن أن يتم في صيغ من تأسيس مراكز البحث والتدريب والمعاهد والمدارس الفنية والتقنية والصناعية، ومؤسسات الإدارة العصرية، وكليات المجتمع والجامعات المتخصصة ذات الطبيعة الدراسية الشاملة البعيدة عن تكريس الآفاق الضيقة للطلبة الذين تقوم بتدريسهم ودفعهم إلى سوق العمل في المجتمع وغيرها من المؤسسات التعليمية التي تتيح لكل فرد الفرصة لكي يقوم بدوره الخاص في عمليات البناء الوطني التنموي عبر المعرفة والمهارات وملكة الابتكار والجهد الخلاق التي يتم غرسها في أذهانهم ونفوسهم من خلال العملية التعليمية التي يتلقونها. وكل حقل من حقول المعرفة والاحتراف يصبح أكثر تخصصاً واحترافية عن طريق فصله عن الحقول الأخرى من ناحية عملية مع إبقاء الأبواب مفتوحة لإمكانية التكامل والتنسيق والتداخل المعرفي بين فروع العلوم المختلفة. وهذا بدوره يتم دفعه إلى الأمام من قبل متطلبات وأهداف البناء الوطني التنموي الداخلي.