أقتبس عنوان هذا المقال من كتابي الذي صدر عام 2015 عن مركز الأهرام للنشر بعنوان «مصر في عين الشمس: التحولات الثقافية في مجتمع ما بعد الثورة». وقد صدّرت الكتاب بمقدمة قلت فيها: «لم لا تكون مصر في عين الشمس وقد قام الشعب بثورة فريدة في التاريخ العالمي المعاصر حين خرجت مجموعة رائدة من النشطاء السياسيين في مظاهرة احتجاجية محدودة إلى ميدان التحرير في 25 يناير لكي تحتج على الديكتاتورية والفساد وخرق حقوق الإنسان، وإذا بملايين المصريين يلتحمون بهذه المظاهرة وتنقلب هذه الموجة الاحتجاجية إلى ثورة شعبية عارمة»، ولم يكتف الشعب بهذه المبادرة التاريخية الجريئة، بل إنه واصل الاعتصام في ميدان التحرير ثمانية عشر يوماً كاملة رافعاً شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» حتى سقط النظام السلطوي العتيد الذي استمر ثلاثين عاماً كاملة بعد قرار الرئيس السابق «محمد حسني مبارك» تنحيه عن السلطة وتسليمه مقاليد البلاد إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهذه الفقرة تتضمن في الواقع تحليلاً علمياً دقيقاً لما حدث بالفعل في 25 يناير، وذلك لأن مبادرة النشطاء السياسيين الذين نجحوا نجاحاً فائقاً في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التشبيك الإلكتروني ودعوا إلى المظاهرة الاحتجاجية التي لم يكونوا واثقين من نجاحها، ولا من الأعداد التي ستلبي النداء وتنزل إلى الميدان. والواقع أن هؤلاء الشباب فوجئوا –كما فوجئ العالم أجمع- بأن الملايين اندفعت إلى ميدان التحرير لإسقاط النظام، وهكذا تحولت المظاهرة الاحتجاجية المحدودة إلى ثورة شعبية حقيقية تطالب بالخبز والحرية والكرامة الإنسانية. غير أن من دعوا للمظاهرة الاحتجاجية لم يكن لهم قادة معروفون، ولم يكونوا يمتلكون رؤية محددة للمستقبل، وفي نفس الوقت فإن الثورة الشعبية التلقائية التي استجابت لنداء المظاهرة لم تكن لها زعامة، لذلك انتقلت السلطة بعد تنحي مبارك إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي وقعت على عاتقه مسؤولية تاريخية ثقيلة حقاً تتمثل في إدارة شؤون البلاد إلى أن يظهر نظام سياسي جديد. ولسنا في حاجة إلى سرد عثرات هذه الثورة الشعبية التلقائية، والتي أدت في الواقع إلى اختلاط الثورة بالفوضى العارمة، لأن الصراع السياسي العنيف سرعان ما بدأ بين تيارات الإسلام السياسي المتعددة وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين» ذات التنظيم الحديدي وجحافل السلفيين الذين رقدوا في الكهوف سنين يزيفون فيها وعي الجماهير الأمية الفقيرة بتأويلاتهم الدينية المنحرفة، لكنهم سرعان ما خرجوا إلى ساحة السياسة -بالإضافة إلى حركات إسلامية فوضوية عبرت عنها حركة «حازمون» بقيادة «حازم أبو إسماعيل»- وهذا المعسكر الإسلاموي الحاشد وقفت إزاءه قوى ليبرالية مفككة، وجماعات متشرذمة من الناشطين السياسيين الذين شارك بعضهم في تنظيم المظاهرة الاحتجاجية. ونجحت جماعة «الإخوان المسلمين» عبر سلسلة من الخطوات كان أولها الاستفتاء الشهير حول «الدستور أولاً» أم الانتخابات أولاً في أن تفرض إجراء انتخابات برلمانية قبل وضع دستور جديد، وهكذا استطاعت -في غيبة الأحزاب السياسية الليبرالية والتنظيمات الثورية للناشطين السياسيين– أن تكتسح مجلسي الشعب والشورى بالاشتراك مع السلفيين. وسرعان ما نجحت أيضاً عبر تحالف مشبوه مع فئة من الليبراليين المغيبين في القفز إلى منصب رئيس الجمهورية. وهكذا اكتملت للجماعة السيطرة المطلقة على مفاصل النظام السياسي المصري، وبدأت على الفور في تنفيذ مخططها في أخونة الدولة وأسلمة المجتمع. وقد عملت جماعة «الإخوان» بدأب شديد لتدمير وزارة الداخلية والنيل من قوات الشرطة، كما أنها استهدفت المؤسسة القضائية أولاً بمحاولة إلغاء الأحكام التي صدرت ضد التجاوزات الدستورية والقانونية للرئيس المعزول ومجالسه المنتخبة الباطلة، وثانياً من خلال السيطرة على المحكمة الدستورية العليا لفصل المستشارين الذين لا ترغب في وجودهم، وأخيراً في التفكير لتحديد سن المعاش للقضاة بما لا يزيد عن 70 عاماً، وبالتالي فصل ما لا يقل عن 400 قاضٍ لتحل محلهم مجموعات كبيرة من المحامين «الإخوان»، حتى تسيطر على أحكام القضاء باتجاهاتها المتطرفة. وكانت تعد العدة للانقضاض على القوات المسلحة، وخصوصاً بعد أن وقفت قياداتها معارضة للتوجهات المنحرفة للرئيس المعزول في مجال الأمن القومي المصري، والتي تتمثل في محاولة كف يد القوات المسلحة عن التعامل المناسب مع القوى الإرهابية في سيناء، بالإضافة إلى إصداره مئات القرارات الرئاسية بالعفو عن مجموعات واسعة من الإرهابيين الذين عادوا للإرهاب مرة أخرى فور الإفراج عنهم. ومعنى ذلك أن الخروج الشعبي الكبير في 30 يونيو والقرارات الحاسمة للقوات المسلحة بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو أنقذت مصر من كارثة كبرى كادت تطيح بالدولة وبأركانها الثابتة وبمؤسساتها الرئيسية الراسخة.