من يقرأ كتب التاريخ الحاوية لدرر المعاني، وكتب العلوم السياسية المعتمدة، يقف على حقيقة مفادها أن التغيير السياسي الذي يأتي من ثورة أو من تدخل عسكري أجنبي، لا يعني البتة زرع أشجار الديمقراطية بطريقة سحرية وفورية، وإنما يحتاج إلى بذور وسقي وعناية يومية من النخب السياسية ومن المجتمع بأسره.. والويل لمن يفهم هاته المعادلة، لأن المصالح الخاصة والعامة قد تضيع، وتصبح الدولة في أياد غير آمنة، فستصبح أشجار الديمقراطية أشجاراً خبيثة، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، ونباتها لن يخرج إلا نكدا. ولعل مصر أكبر مثال على ذلك، ونحن على خمس سنوات من ثورة 25 يناير 2011، وهي مسافة زمنية كافية لاستخراج الدروس والعبر. مصر دولة فيها مفكرون ومؤسسات وفيها اتجاهات أيديولوجية قديمة قدم الزمان، أي أن المجال السياسي العام لا يمكن أن يتوفر إلا على عقائد سياسية ولا يمكن إذا عمته الفضائل، وانتشرت فيه الحكمة أن يئد مفهوم الاختلاف أو يتغاضى عن إقراره في عقد سياسي، يصادق على حق الرأي والانتماء، وعلى التعددية السياسية من جهة، ثم القبول بمبدأ توزيع السلطة واقتسامها على أساس توافقي أو تنافسي مبني على مرجعية ميزان القوى وإرادة الرأي العام.. لكن للأسف الشديد مرت مصر بمرحلة انتقالية مضطربة مع «الإخوان» فرضت على الدولة أن تعيش مرحلة من اللايقين واللامسؤولية السياسية، قبل أن تندلع ثورة تصحيحية تبنت خريطة طريق أعلنها الفريق أول عبدالفتاح السيسي يوم 3 يوليوز 2013 بوصفه وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للجيش المصري. الدول لا يمكن أن تصنع عظمتها إلا نخبها وأفرادها، وهم يتحملون مسؤولية كبيرة أمام الله وأمام العباد. الدول ملك عمومي لمجموعة العناصر المكونة لها، أما أن تعتقد الجماعات الإسلامية أو شخص ما أن لهم حق الوصاية على الناس، بحكم انتماءاتهم أو الأفضلية أو بوحي من الله عز وجل، ويقومون بإملاء ما يرون على الناس بالتقية أو بالقوة، فهو من نفث الشيطان لا من وحي الرحمن الكبير المتعالي. إن للسياسة وتسيير البلدان شروطا وقواعد، سماتها عالمية، تتغير فقط بعض بنودها البسيطة حسب الأحوال والأمصار وطبائع البشر، وكلما كانت هناك جماعات فاشية، كما حدث في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في أوروبا، أو كانت هناك جماعات دينية تدعي أنها تملك حق الوصاية على رقاب الناس في الداخل والخارج.. كان مآلها الفشل، لكن بعد أن تأتي على الأخضر واليابس. وكم من قادة منظرين لقواعد التفكيك والخراب في «داعش» كانوا من «الإخوان» وقد تربوا على أيديولوجيتهم، ورفعوا بها أمجادهم الخاوية على عروشها، لا أحياها الله بعد مماتها. في صحيفة «الاتحاد» الغراء، كتبت هنا مع زملاء آخرين مقتدرين من كل الأطياف الفكرية والانتماءات الوطنية، ولسنوات عديدة، بالأدلة والبراهين، أن تسييس الدين وتديين السياسة خطر على الدين وخطر على السياسة، وهو مؤذن بالخراب والهدم، وموسع لشرايين الإرهاب، خاصة عندما يعلن أهلها أنهم ممثلو الله، والآخرون عن بكرة أبيهم جاهليون، فيجعلون من فهم الإسلام قعقعة حرب وطنطنة فتنة، فيسيئون إلى التاريخ وإلى الأفراد والخليقة وإلى الدين: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا».