حكومة جديدة في كرواتيا تأتي وسط تحديات اقتصادية غير هيّنة بالنسبة لأحدث دولة تلتحق بعضوية الاتحاد الأوروبي، وعقب انتخابات تشريعية غير حاسمة فرضت نتائجُها رئيسَ وزراء غير حزبي للمرة الأولى في تاريخ البلاد، ألا وهو رجل الأعمال الكرواتي الكندي «تيهومبر أورسيكوفيتش» الذي حصلت حكومته، يوم الجمعة الماضي، على ثقة «السابور» (البرلمان الكرواتي)، ليباشر معها مهام أول منصب رسمي يتولاه في حياته. ولد «تيهومبر أورسيكوفيتش» في زغرب عام 1966، لكنه -وبينما كان لا يزال طفلا رضيعاً- انتقل مع والديه إلى هاميلتون في كندا. وهناك تخرج بشهادة الباكالوريوس في الكيمياء من جامعة ماكماستر عام 1989. ومن الجامعة نفسها حصل في عام 1991 على درجة الماجستير في إدارة الأعمال ونظم التمويل والمعلومات، ليبدأ في العام التالي حياته المهنية في شركة الأدوية الأميركية «إيلي ليلي»، والتي شغل فيها وظائف مختلفة في مجال التمويل والأعمال التجارية الدولية، وترقى إلى أن أصبح مدير العلاقات والشؤون الاقتصادية للشركة. ثم واصل مسيرته المهنية في شركة «نوفوفارم» الكندية للأدوية، والتي أصبحت الآن «تيفا كندا»، وأصبح نائب رئيسها لتطوير الأعمال والمنتجات المتخصصة، ثم مديرها المالي. لكنه انتقل في عام 2009 للعمل في شركة «بليفا» للأدوية، وهي شركة كرواتية يقع مقرها في زغرب وتعد أحد أكبر المصنعين في مجالها على مستوى أوروبا الشرقية، وقد أصبح أورسيكوفيتش مديرها المالي في عام 2010، وعمل على توسيع نشاطها لتدخل أسواق البحر المتوسط وأفريقيا والشرق الأوسط. لم يعرف عن أورسيكوفيتش القيام بأي أدوار سياسية من قبل، لكن تطورات الأشهر الأخيرة في كرواتيا شدّته للمشاركة في بعض التفاعلات والمواقف غير الحزبية، قبل أن تدفعه أخيراً إلى منصب رئيس الحكومة. فعقب الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد يوم 8 نوفمبر الماضي، لم يستطع الحزب الحائز على أكبر عدد من مقاعد البرلمان، وهو «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» الحاكم، تأمين عدد كاف من الحلفاء داخل معسكر اليسار لتأمين أغلبية في «السابور»، فبادر حزب الاتحاد الديمقراطي الكرواتي، الحزب الرئيسي ليمين الوسط السياسي في البلاد وأحد أكبر حزبين سياسيين إلى جانب «الاشتراكي الديمقراطي» الذي يمثل يسار الوسط، بأخذ زمام المبادرة والتحرك لتشكيل الحكومة، رغم أنه لم يحرز في الانتخابات أكثر من 45 مقعداً من أصل 151، لكن حليفه الرئيسي في معسكر يمين الوسط المحافظ، وهو حزب «جسر قوائم الاستقلال» الذي تكون في عام 2012 بقيادة «بوزو بيتروف» عمدة بلدية «ميتكوفيك»، حصل على 19 مقعداً. وأمام نتائج انتخابات لم يستطع أي طرف حسمها لصالحه، تم التفاهم بين القطبين الرئيسيين، «الاشتراكي الديمقراطي» و«الاتحاد الديمقراطي الكرواتي»، على تسمية شخصية توافقية مستقلة لرئاسة الحكومة، فكانت رجل الأعمال وخبير استثمارات الصناعة الدوائية تيهومبير أورسيكوفيتش، ليصبح رئيس الوزراء الحادي عشر لكرواتيا منذ إعلانها دولة مستقلة عن يوغسلافيا السابقة عام 1991، وأول رئيس وزراء كرواتي غير حزبي خلال الفترة ذاتها أيضاً. وقد تم تكليفه رسمياً بقرار من الرئيسة الكرواتية «كوليندا غرابار كيتاروفيتش» يوم 23 ديسمبر الماضي. وكما استغرقت مفاوضات التواقف على اسم رئيس الحكومة 45 يوماً، فقد استغرقت من أورسيكوفيتش أيضاً عملية اختيار فريقه الحكومي شهراً كاملا، وجاء الفريق مكوناً من نائبين لرئيس الوزراء و20 وزيراً، وهي التشكيلة التي أقرها البرلمان بـ83 من أصل 151 نائباً برلمانياِ، إذ لم يصوت اليسار على منح الثقة للحكومة الجديدة حتى لا يتحمل مسؤولية إخفاقها في معالجة الملفات المهمة، وبالفعل فإنه يتعين على حكومة أورسيكوفيتش معالجة العديد من الملفات المعقدة والصعبة، وضمنها كبح تزايد الدين العام، وتقليص النسبة المرتفعة للبطالة، ودفع النمو الاقتصادي الضعيف الذي بدأ أواسط العام الماضي بعد ست سنوات من الركود. لذلك قال أورسيكوفيتش أمام البرلمان، قبيل التصويت على حكومته يوم الجمعة الماضي، إن أحد الأهداف الرئيسية للحكومة سيكون زيادة معدل النمو الاقتصادي والوصول به إلى أزيد من 4 في المئة بحلول عام 2020، وتقليص عجز الميزانية من نحو 5 في المئة ليصبح في نطاق المسموح به على مستوى الاتحاد الأوروبي (أقل من 3 في المئة)، وخفض الدين العام إلى ما دون 80 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، والعمل على ضمان تصنيف ائتماني يسمح بتدفق الاستثمارات الأجنبية على البلاد. بهذه الوعود وتلك النوايا من رئيس وزراء غير حزبي، ستجرب كرواتيا، بنظام حكمها البرلماني المستقر نسبياً، ومساحتها الصغيرة (56 ألف كيلومتر مربع)، وعدد سكانها المتوسط (نحو 4.3 مليون نسمة)، وإجمالي ناتجها الاقتصادي البالغ 82 مليار دولار.. ستجرب نمطاً جديداً من القيادة غير المثقلة بأعباء الانتماءات الحزبية والالتزامات الانتخابية الضيقة، بعد أن حكمها اليمين من عام 1990 إلى عام 2000، واليسار من عام 2000 إلى عام 2003، ثم اليمين من عام 2003 إلى عام 2011، بعده اليسار من عام 2011 إلى عام 2015، والآن في عام 2016 يأتي أورسيكوفيتش، المستقل ورجل الأعمال الناجح، وحامل الجنسيتين الكرواتية والكندية، ليقدم لكرواتيا والكرواتيين ما تسمح به خبرته الإدارية وإمكاناته القيادية، وقبل ذلك ما تسمح به توازنات القوى الحزبية وحساباتها السياسية والاجتماعية. محمد ولد المنى