هزّ انهيار سوق النفط خلال الأسبوع الماضي معظم الأسواق الخليجية، وفقدت سوق الأسهم السعودية نسبة 6,5% من قيمتها السوقية في يومٍ واحد، وتزامن هذا الانهيار مع دخول الاتفاق النووي بين الدول الغربية وإيران حيّز التنفيذ، مما عنى دخول خمسمائة ألف برميل في اليوم من النفط لسوق متخم أصلاً بالخام. وتنادي بعض الأصوات والتغريدات من هنا وهناك مرددة أنه قد حان الخروج من مظلة اقتصاد النفط، والمطالبة بتنويع الاقتصادات الخليجية كي تكون مستقلّة عن الاعتماد على أسواق النفط المتذبذبة. ووصل الأمر ببعض النقّاد إلى رؤية اعتماد الدول الخليجية على النفط بمثابة «لعنة» على اقتصاداتها! ولكن الحقيقة، أنّ النفط رحمة لدول الخليج العربية، فقد ساقها من عصر فقرٍ وبؤسٍ وعوز، إلى مرحلةٍ من الرفاه والنمو، وزيادة دخل الأفراد. وحين ينظر المرء إلى أسعار النفط على مدى مائة وخمسين عاماً ماضية، فسيرى أن النفط (بأسعار 2010)، كان يتمتع بأسعار عالية حين اكتشف بكميات تجارية عام 1861، حيث كان سعره يصل إلى 110 دولارات للبرميل الواحد. غير أنّ هذه الأسعار لم تدم لأكثر من عقدٍ واحد عادت بعده الأسعار لمدة مئة عام (1870-1970)، في حدود 20-25 دولاراً للبرميل. ولم تتغيّر الأسعار إلا عبر الأزمات والحروب التي مرّت بالمنطقة، بدءاً بحرب 1967، وليس انتهاءً بحرب 1973، التي شهدت الحظر النفطي العربي. ولعلّ العامل المهم خلال تلك الفترة هو وجود تغيّرات هيكلية عميقة في الصناعة النفطية، حيث نسّقت الدول المنتجة سياساتها في بوتقة منظمة «أوبك»، وأمّمت، أو اشترت، معظم الدول الشركات المنتجة للنفط، وأصبحت هذه الشركات بعد ذلك شركات وطنية خالصة. وكلنا يعرف ما حدث للأسعار بدءاً من ديسمبر عام 2014، وحتى الوقت الحاضر. ويمكن تفسير ذلك أيضاً بوجود تغيّرات هيكلية عميقة في الصناعة النفطية. ف«أوبك» لم تعد تسيطر إلا على 33,5% من إنتاج النفط العالمي، بعد أن كانت تسيطر على 48% من الإنتاج في عام 1973. فقد دخل منتجون جدد إلى السوق الأميركي (النفط الصخري)، وراحت روسيا تستحوذ على نسبة كبيرة من الإنتاج، وتزاحم المنتجون داخل «أوبك». وفي المقابل، بدأ المستهلكون في البلدان الغربية بمحاولة استبدال النفط بمنتجات نظيفة مثل الغاز والكهرباء والطاقة الشمسية، وغيرها من مصادر الطاقة البديلة. وكل هذه التغيّرات الهيكليّة في السوق النفطية ساعدت على تدهور الأسعار، ولكنها لم تكن تمثّل الصورة كاملة. فالتنافس السياسي داخل منظمة «أوبك»، خاصةً بين المملكة العربية السعودية وإيران، وعدم قبول بعض المنتجين الكبار، مثل روسيا، تنسيق سياساتهم مع منتجي «أوبك»، ساهم كذلك في تدهور الأسعار خلال عامٍ مضى ونصف عام. ولعلّنا نتذكر أنّ أسعار النفط التي كانت متدنّية خلال التسعينيات من القرن الماضي، لم تتحسّن إلا عندما نجح المرحوم الملك عبدالله بن عبدالعزيز في عقد صفقة سياسية مع كلٍّ من إيران وروسيا لمعالجة التراجع في أسعار النفط، وحينها (1998)، ارتفع سعر النفط من نحو 20 دولاراً (وفق أسعار 2010)، إلى 38 دولاراً للبرميل الواحد، خلال أقل من سنتين. والمطلوب اليوم هو العودة إلى التفاهمات القديمة، ولكن ذلك يصعب في وجود مرشد الثورة الإيراني، الذي يشجّع مواطنيه على مزيد من التشدّد والراديكالية، وكذلك الرئيس بوتين المشغول في إعادة المجد السوفييتي القديم على أشلاء سكان المدن السورية. والسؤال الرئيس هو: هل من الممكن أن نعيد تدريس القادة السياسيين مبادئ الاقتصاد السياسي؟ أمّ أن الإيديولوجيا والأحلام العظيمة بعودة الإمبراطوريات القديمة ما زالت تعشعش في أذهانهم؟ ومثلما يحلم بوتين بعودة الإمبراطورية السوفييتية، وكذلك مرشد الثورة ببناء إمبراطورية فارسية جديدة تحت سُتر إسلامية، فإنّ بعض رجال الأعمال المحليين في دول الخليج ينادون بتخلّص الدولة من بعض قطاعاتها الاقتصادية المهمة تحت إيديولوجية الخصخصة، التي نادى بها كل من ريجان وتاتشر قبل نصف قرن. وكثيرون لا يعارضون الخصخصة في حدّ ذاتها، ولكنهم يتخوّفون من أن تفقد الحكومات العربية السيطرة على مواردها النفطية، وتصبح هذه الموارد ملكاً للشركات الكبرى، ونعود لما كان عليه الوضع قبل عام 1970. ومثل هذا التحليل لا ينطبق على تخفيف أعباء الميزانيات الحكومية عبر التخلّي عن بعض المؤسسات التي تمثّل عبئاً على الميزانية. ولكن مثل هذا التخلّي ينبغي أن يُدرس بعناية فائقة، وألاَّ يُطبَّق على التعليم أو الصحة، لأنهما يمسّان العمود الفقري لحياة المواطن. ومن ناحيةٍ اجتماعية، علينا إعادة هندسة العائلة، فالموارد الطبيعية المتاحة لا تسمح لنا بالزيادة الهائلة في عدد السكان، وعلينا تشجيع الزيادة الطبيعية المعقولة للسكان، دون أن يمثّل ذلك عبئاً على الموارد المتاحة حالياً، أو مستقبلاً. ------------ أستاذ العلوم السياسية- جامعة الملك سعود