من أجل إلقاء الضوء على أسوأ بداية للبورصات العالمية في العام الجديد، يلجأ بعض المحللين إلى تفسيرات ترتبط بالتباطؤ الذي يعاني منه الاقتصاد الصيني والسياسات الخاطئة التي أدت إليه، ويرجعه محللون آخرون إلى المؤثرات التراكمية للأسواق ذات التغيرات التي تتصف بالتشوُّش والفوضى، مثل سوق النفط، إلا أن أياً من هذين التفسيرين ليس مقنعاً تماماً، ولقد فشل كلاهما في أخذ عنصري السيولة النقدية ومدى وسرعة تقلّب الأسعار في الحسبان. وكان التأثير السوقي عير المرغوب لآلة النمو الصينية المتثاقلة، قد تضخم بشكل كبير بسبب تبنّي بعض السياسات الخرقاء، بما فيها الانعكاس المفاجئ لأدوار الجهات المؤثرة على أسواق البورصات، والافتقار الجزئي لتأثير السياسات على نمو الأسواق فيما وراء البحار بسبب نقص الاتصال والتواصل فيما بينها، وحتى هذه الأسباب وحدها، لا يمكنها أن تبرر الاتجاه القوي للبيع المكثَّف للأسهم في البورصات العالمية بما فيها البورصات الأميركية والتي سجلت انخفاضاً بمقدار 8 بالمئة في مؤشر «ستاندارد أند بورز 500» خلال الأسبوعين الماضيين وبما لا يتطابق مع الحالة الحقيقية للاقتصاد الأميركي الذي يشهد حالة تعافٍ متواصلة. وتتكرر هذه الديناميكية الغامضة في طريقة أداء أسواق النفط. وبالفعل، فلقد انهارت أسعار النفط بسبب عدم التوافق القائم بين زيادة تموين الأسواق، بما في ذلك من النفط الصخري الأميركي، وتباطؤ النمو على الطلب. ومما زاد الأمور سوءاً وتفاقماً هو القرار الذي اتخذته منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك» بإلغاء دور «المنتج المتأرجح» الذي يسارع عادة إلى تخفيض الإنتاج من أجل وضع حد لتراجع الأسعار. إلا أن النتائج التي أفرزها انهيار أسعار النفط، ومدى مساهمتها في زيادة عدم استقرار الأسواق المالية، قد تم التطرق إليها بشيء من المبالغة من طرف المحللين، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتأثيراتها على القطاعات والدول ذات الاستهلاك العالي لمصادر الطاقة، والتي تستفيد بشكل كبير من انخفاض أسعار النفط. فلماذا إذن يكون في وسع تغيرات حتى لو كانت صغيرة أن تؤدي إلى نتائج شديدة التأثير على أسعار الأصول المالية، من حيث الارتفاع أو الانخفاض؟ ولماذا تنحو البورصات العالمية بشكل عام إلى الانخفاض عندما تتعرض الأسواق للتشوّش؟ تشهد الأسواق المالية الآن تحولين حاسمين من النوع الذي لا يقتصر تأثيره على تضخيم حجم التداعيات الناتجة عن المشاكل الراهنة لاقتصاد الصين وأسعار النفط مثلاً، ولكنه يخلق أيضاً الظروف التي لا يمكن التنبؤ بوجهة تطورها. يتعلق أولهما بالتحول من النظام ذي السوق المالية المتقلبة، إلى بيئة يكون فيها عدم الاستقرار أكثر تأثيراً وأصعب تشخيصاً. ويكمن السبب الأول لهذا التحول في أن البنوك المركزية أصبحت أقل رغبة (في حالة الخزينة الفيدرالية الأميركية)، أو أقل قدرة (في حالة البنك المركزي الأوروبي وبنك الشعب الصيني) على لعب دورها القوي الذي يمكنها من التصدي لمشكلة التقلب التي تعاني منها الأسواق. وأما على المدى القصير، فيمكن لهذا التحول أن يؤدي لا محالة إلى ارتفاع مؤشر المخاطرة والخوف من التعامل مع الأسواق. ويتعلق التحول الثاني بقضية «السيولة النقدية». ومع الزيادة المتواصلة في الإجراءات المعقدة للتعامل مع الأسواق، والشهيّة السوقية المتناقصة للأرباح قصيرة الأجل المرتبطة بتقلبات السوق، أصبح المضاربون والوكلاء أقل رغبة في المبادرة. وهناك رؤوس أموال ضخمة أخرى، بما فيها «صناديق الثروة السيادية»، تواجه مثل هذه القيود والمعوّقات وتزيد من المخاطر السوقية لاستثماراتها. وإذا لم يتم التحكم بهذين التحولين معاً، فسوف يقوّي كل منهما من تأثير الآخر على الأسواق، وبما يخلق الانطباع العام باضطراب الأسواق المالية وفقد عنصر الأمان والثقة في التعامل معها، وبقدر ما يستمر هذا الحال، بقدر ما تستفحل مشكلة «التطاير» وتتعزز المخاطر التي تهدد الأسس التي يقوم عليها اقتصاد السوق. وأما الأخبار الجيدة، فهي التي تشير إلى أن هذه «الديناميكيات السوقية» غير المحبذة لا بد أن تستهلك نفسها في نهاية المطاف، ولكن، ولسوء الحظ، فإن هذا لا يتحقق عادة إلا بعد أن تعاني السوق من حالة تقلب أكبر أثراً، ترافقها مخاطر ضخمة ناتجة عن تراجع حاد في أسعار الأصول المالية، ويمكن أن يؤدي كل ذلك إلى تباطؤ في معدل النمو الاقتصادي. ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ محمد العريان* ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ رئيس «المجلس العالمي للتنمية» التابع للرئيس أوباما ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»