عندما يختفي دور الدولة يلجأ الناس إلى الفرعيات، وأهمها ببلد مثل العراق العشائر، وتأتي بعدها القومية والمذهب والدِّين، فتصوروا لم نسمع يوماً مِن الأيام بعشائر سريانية إلا بعد سقوط الدولة (2003)، فيخرج أحدهم ويُقدم نفسه شيخ العشائر السريانية، وذلك لمسايرة الوضع الجديد في طغيان الانتماء العشائري على الانتماء الوطني، وهذا الأخير كان ملاذ الأقليات، بينما المعروف عن سريان العراق أنهم ديانة، وفي ظل النزاع القومي أخذوا يقدمون أنفسهم كقومية، وهذا صحيح، فلهم لغتهم وتاريخهم القومي. كانت وما زالت العشيرة وحدة اجتماعية متماسكة، يقوى دورها بضعف الدولة ويضعف بقوتها، ومع أن الإسلام جمع القبائل تحت مظلته، إلا أن الجيوش ظلت تتألف على أساس القبائل، وكان يشار إلى المسلمين بالقحطانية والعدنانية أو القيسية واليمنية، بمعنى أن الدِّين لم يلغِ تلك العصبيات، وعلى هذا الأساس نشبت المعارك بين المسلمين أنفسهم، وكان الجيش يُنظم على أساس الانتماء العشائري، أي كل عشيرة لها رايتها تُقاتل تحتها، والإسلام يجمعها كلها. ظل دور العشيرة حاضراً على مرِّ عهود الدولة العراقية، مِن العهد العثماني وحتى يومنا هذا، وما فعله العثمانيون تقوية رئيس العشيرة ليجعلوا منه حاكماً على منطقته، ولما جاء البريطانيون (1917) أقروا قانون «السواني»، أي العرف العشائري، فقضية القتل مثلاً تحل بالتراضي وتقديم «الفصل» (الدية)، وكثيراً ما تذهب المرأة ضحية «السواني»، أي تُقدم أخت القاتل إلى ذوي القتيل، وتسمى «الفصلية»، وهي بلا شروط ولا اعتبار، تعيش العمر تحت طائلة جريمة لم ترتكبها، وكذلك لأفراد العشيرة الحق بممارسة ما يُعرف بـ«غسل العار» الذي يطبق على المرأة أيضاً. أُلغي «السواني» بعد ثورة 1958، في محاولة لإضعاف العشيرة وسيادة قانون الدولة، وقد صاحب إلغاء هذا القانون تحريم حمل السلاح، وبالفعل خضعت العشائر لهذا الإجراء، ولم تسعَ الدولة آنذاك لاستمالتها، فمظهر النزاع كان حزبياً، دخل أبناء العشائر فيه بالانتماء إلى الأحزاب، لكن في تسعينيات القرن الماضي، أخذت السلطة تستميل رؤساء العشائر، بل عمدت إلى تغيير الشيوخ الأصليين، فشاع مصطلح «شيوخ التسعينيات»، وذلك بعد ضعف الدَّولة وعلى وجه الخصوص في المناطق الجنوبية. أما بعد 2003 فكل عشيرة صارت تقوم بدور الدولة، وقد استُنسخت تجربة التسعينيات لتشكيل ما يعرف بعشائر الإسناد، في وزارة نوري المالكي، بل ظهر تحول في حياة العشيرة بعقد مؤتمرات عامة، وأخذت بممارسة السلطة السابقة: إهداء مسدس لشيخ العشيرة، كاعتراف بمشيخته وربطه بالولاء، وأخذت العشائر (في العهد الديموقراطي) تُحشد في الانتخابات، والسبب أن المذهب لا يجتمع لحزب واحد مثلما تجتمع العشيرة له. كان دافع هذا المقال المعارك الأخيرة بين عشيرتي «الكرامشة» و«الحلاف» بالبصرة، وتحديداً بناحية كرمة علي، نعم كانت تقوم منازعات لا عدد لها بين العشائر، حتى في أوج قوة الدولة، لكن لم يتعدَّ سلاحها البنادق والمسدسات أو السلاح الخفيف عموماً، إنما السلاح الثقيل كالمدفع والصاروخ والمدرعة كان من حق الدولة فقط، بينما معارك اليوم تحصل بالسلاح الثقيل، الذي يصل إلى العشائر بسهولة، من خارج الحدود ومن داخلها، وربما كانت وراء تلك المعارك العنيفة أسباب تافهة، لكن بحرية امتلاك السلاح وغياب دور الدولة والنزاع على مناطق النفوذ، يتطور السبب التافه إلى حرب داحس والغبراء، وهكذا الحال ما بين الكرامشة والحلاف وغيرهما من ثنائيات المعارك العشائرية بالمنطقة. صحيح أن سكان البصرة القدماء لم يعد لهم وجود أو تأثير، فتلك الأُسر المعروفة قد هجرت المكان، وفسحته لأقوام جدد نزحوا من المحافظات الأُخر أو من أطرافها، لكن الحديث يجري عن علاقة في الاسم بين القرامطة والكرامشة، بتحول القاف إلى كاف والطاء إلى شين، ومعلوم أن القرامطة احتلوا البصرة وخاضوا معارك هناك مع الدولة العباسية (القرن الثالث والرابع الهجريين)، وقد حكموا البحرين وكانت الإحساء ضمنها لتسعين عاماً. كذلك تظهر لنا جماعة اسمها «القرماطيون»، ويمكن لفظها في ما بعد، حسب تبدل اللهجات وتداخلها بـ«الكرماشيون»، وهم جماعة اشتركوا بالثورة ضد الخلافة العباسية بالبصرة (الطبري، تاريخ الأُمم والملوك)، في ما عُرف بثورة الزُّنج (255 -270هـ). مع علمنا أن المناطق التي يوجد فيها الكرامشة اليوم كانت ساحة لتلك الثورة، والتي امتدت إلى أهوارها وأهوار ميسان. لسنا مع فكرة تبخر الأقوام، أو على الأقل الأسماء، فـ«فخراب البصرة» كناية ظلت شاهداً على تلك الحوادث، لتتحول اليوم بين الكرامشة والحَلاف، خراباً إثر خراب، في ظل ديموقراطية العشائر ومشاعة السلاح الخفيف والثقيل.