ارتبط الإسلام الجهادي في أفريقيا، ولحوالي قرنين، بخيارات الدعوة «المهدوية» ذات الطابع الصوفي، لمواجهة الآخر، «الاستعماري» تارة و«الكافر» تارة أخرى. وكانت الدعوة في ذلك تتراوح بين مواجهة سلطات أو مواجهة مجتمعات.. حتى حسم «الإسلام السياسي» -في فترة أحدث- خيار المواجهة وتحديدها كمواجهة السلطة والمجتمع معاً، وهذا ما قاد «الحركات الإسلامية» إلى العنف! هذا الحوار العام هو ما يكاد المرء يقرؤه بصيغ مختلفة في كتاب صدر حديثاً للدكتور حمدي عبد الرحمن، اختار له عنوان «تحولات الخطاب الإسلامي في أفريقيا.. من الصوفية الإصلاحية.. إلى بوكوحرام». وقد رأيت في هذا العنوان تواضعاً لغير راغب في المواجهة، أو قل تجنباً لزيادة التوتر القائم في مجتمعاتنا التي باتت لا تجيد طرح الحوارات بالموضوعية الكافية، مما جعل العنف سائداً ومفتِّتاً للمجتمعات. والملفت في تاريخ الحضور الإسلامي في أفريقيا، أنه اتسم بعد انتشاره في الشمال الأفريقي، بالوصول الناعم عبر التجارة والثقافة، دون أن يؤسس لحركة مثل حركة العنف التي ارتبطت به بعد ذلك. بل قام على الدعوة إليه في أنحاء مختلفة من القارة مشايخ أفريقيا أنفسهم، مما يجعل المؤلف يرى الإسلام وكأنه «وُلد في أفريقيا»، وذلك ضمن نقطة منهجية هامة في النموذج المعرفي حول تاريخ الإسلام، إشارةً إلى طبيعة حضوره في أفريقيا عن طريق أبناء القارة أنفسهم. وفي تقديري أنه جرى تشويه الإسلام في منهج «التاريخ التقليدي» حول «انتشار العروبة والإسلام»، «ومهمة نشر الحضارة العربية والإسلامية»، وذلك من خلال مناهج اتسمت كثيراً بالفقر المنهجي والمعرفي لعدة قرون، وجعلتنا نواجه عدائية مفرطة من قِبل المستشرقين والمستفرقين وأبناء القارة أنفسهم. من أهم نقاط الإضافة في دراسة «تحولات الخطاب» تلك العلاقة بين الحركات المهدوية، والحركات الإسلامية الحديثة، وحين يربط المؤلف بين المهدوية والصوفية، بل والجهادية الأولى، فإنه يتوقف كثيراً عند كبار الدعاة من أبناء القارة، أمثال: أبوبكر جومي، والأمين المزروعي، وعبد الله الفارسي، والكانمي.. وحتى فريد إسحاق.. إلخ، بل ويربط بينهم وبين مجاهدين مثل عثمان دان فوديو وغيره. وكان ذلك كله في إطار الدفاع عن الإسلام، وتطوير مساحة حضوره، حتى أصبحت الصوفية غطاءً للدعوة السلمية التي تتضح أكثر في منطقة الغرب الأفريقي (المريدية). أما اختلاف المتابعين حول طبيعة «الحضور الإسلامي» فينشأ عندما نضع «الحركات الإسلامية» الأحدث في موضعها الصحيح، بعدما تم تسييس الحركة الإسلامية لتناقض حركة تحديث «الدولة الوطنية»، بعد هجرها لخطاب التجديد وخطاب الصوفية الإصلاحي. ويبدو لي أن معالجة الدراسة هنا لم تشأ إبراز التناقض القائم أو الذي قام بين الحركات السياسية الجديدة، وبين الإسلام التقليدي الذي وصل أفريقيا منذ وقت مبكر، أو حتى عندما اتخذ شكل الحركات المهدوية الإسلامية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لقد قدم الدكتور حمدي عبد الرحمن خطاب الحركات الإسلامية في إطار فترة النهوض التي عرفتها المجتمعات الأفريقية، حيث كان يجري التأسيس للدولة الوطنية الحديثة، ومع ذلك -حتى مع اجتهادات الباحث- تحولت الحركات الإسلامية في السودان ونيجيريا خاصة إلى حركات جهادية لفترة، أو سياسية إقصائية في فترات تالية، ثم اندفعت باسم الإسلام السياسي، في خلط واضح مع الصحوة أو النهضة أو التنموية، في تتابع كأنه تكيف مع ظرف سياسي أكثر مما مطلب لـ«الدعوة» التي بدؤوا بها. وهنا يقدم الترابي، كما يقدم آخرون من قيادات الإسلام السياسي في شمال وجنوب أفريقيا، جهدهم الفكري كدعوة تجديدية، بينما ينشدون السياسة والسلطة. وفي إطارهم ذاك انطلقت الجهادية من بين أيديهم لتصبح عنفاً في حركات إسلامية بقالب آخر في المشرق والمغرب فيما نسميه بالإرهاب.. ويكاد المرء يتساءل كيف وصلت حركة «التحول» من الصوفية إلى الإرهاب؟ والحق أنه هكذا تبدو الآن حركة الإسلام السياسي ملتحفة بمنطق الصوفية لتصيغ السياسة في حركة إرهابية. وهنا كان ذكاء الباحث في عنونة الكتاب «تحولات»، وليس تجديد الخطاب الإسلامي كما يزعم البعض، الأمر الذي ما زال بعيداً عنا للأسف في هذا الجو الإرهابي المحيط بالدعوة الإسلامية.