الانتحار هو قيام الفرد بإنهاء حياته، وعادة ما يرتبط بوصول الإنسان إلى أعلى درجات اليأس، ولا تؤيد قيمنا هذا الفعل، بل يعد محرماً لأن الإنسان لا يملك نفسه كي يقرر إزهاق روحه، وكما أننا ننكر على الفرد سعيه للقيام بهذا الفعل الآثم ونسعى ما استطعنا لعلاجه مما يعاني منه وبث روح الأمل فيه، فإن واجبنا يكون أكبر تجاه أمتنا التي قررت في لحظة ضعف من حياتها الانتحار الحضاري! فمن يتابع مجريات الأمور في العقود الأخيرة من تاريخ هذه الأمة، يجد أنها سقطت في هاوية سحيقة، لعوامل داخلية وخارجية توقع من خلالها البعض انهيار الدولة العربية المعاصرة. ومن يتابع نشرات الأخبار اليومية لا يحتاج إلى براهين كي يثبت لنفسه خطورة المرحلة التي نمر بها؛ فهل هي كبوة فارس ينهض بعدها من جديد، أم أنها القواصم التي تعصف بالعواصم كما يريد البعض وصفها؟ كي نفهم مرحلة اليأس التي وصل إليها العرب لابد من تشخيص الحالة لمعرفة أسبابها، فإن نجحنا في ذلك تمكنا ليس من إنقاذ نفس واحدة بل أمة معرضة للانقراض. السبب الأول في تهاوي بعض الدول العربية وتعرضها للزلازل الحضارية يتلخص في نمط إدارة تلك الدول، حيث فشلت قياداتها في تحقيق طموحات أهلها، فقد اعتمدت تلك القيادات على أجهزة إعلام رفعت شعار «اكذب ثم اكذب حتى تُصدق»، وتعمدت تلك الأجهزة دغدغة عواطف الناس كي تلهيهم عن المآسي التي هم فيها، ونجحت في تسويق الفشل وتلميعه، فلما زال مفعول سحر تلك الأجهزة، بسبب الإنجازات التقنية المذهلة لهذا العصر في مجال الاتصال والإعلام، تمكن الناس من مقارنة واقعهم بغيرهم، فلما طبقوا المعايير الدولية على حياتهم رسبت قياداتهم في بنيتها التحتية وفي الخدمات التي تقدمها من تعليم وصحة وفرص عمل.. عندها كان ما رأينا في دول كانت تقود حضارتنا، لكن تاريخها المعاصر فشل في تلبية متطلبات شعوبها. لست هنا مؤيداً لما يسمى «الربيع العربي»، لكني أسعى لتحليل واقع بعض الدول كي نقي أمتنا من خطر بات يهدد حضارتنا. العامل الثاني في انهيار الدولة العربية يتلخص في فقدان الولاء والانتماء للوطن، فهناك تيارات كانت تعمل في الخفاء من أجل استقطاب الشباب بعيداً عن وطنيتهم، تحت شعارات طنانة رنانة تزعمتها تيارات الإسلام السياسي بشقيها المذهبي السني والشيعي، ففي دول العالم العربي انتشرت جماعات كثيرة منها جماعة «الإخوان المسلمون» وغيرها من جماعات التكفير والإرهاب، وكان من تربيتهم في محاضنهم أن الولاء للتنظيم فوق الانتماء للوطن، هذا ما تؤكده أدبياتهم والدراسات التي أجرتها المراكز المتخصصة حولهم. قد يقول البعض: وما الضير في أن يكون الانتماء للجماعة بدلا من الدولة؟ لكن الخطورة تتلخص فيما نراه اليوم من عمليات لا يقرها عقل ولا شرع، أسهمت في زعزعة الأمن في الكثير من الدول العربية، يقوم بها أبناء تلك الدول الذين كفّروا قادتهم بل وحتى أهلهم، وأصبحوا دمى تلعب بها أجهزة خفية. وفي التيار الشيعي السياسي، سعت إيران لتصدير ثورتها واستغلال ثروتها ليس في بناء دولتها بل في زعزعة الدول من حولها، تحت شعار ولاية الفقيه التي أجبرت من تبنى فلسفتها على خلع انتمائه لوطنه وجعل مذهبه هو أمته. عاملان أساسيان إذن في انتحار الأمة العربية لابد من التعامل معهما بكل صراحة وشفافية، إن أردنا تقوية المناعة الداخلية في الدول العربية كي لا تصيبها فيروسات يسوقها غيرنا ويصدقها أبناؤنا، فتتناحر دولنا وتنتحر أمتنا.