احتفلت دول الشرق الأقصى بدخول السنة الميلادية الجديدة قبل غيرها من الدول بسبب موقعها الجغرافي، وبالتالي فارق التوقيت الزمني. لكن هذا ليس هو بيت القصيد، فما يعنينا هنا هو التصريحات الأولى لقادتها وهم يودعون عاماً ويستقبلون آخر، أول ما لفت نظري، في هذا السياق، هو أن ديكتاتور كوريا الشمالية «كيم جونغ أون» سبق الآخرين في إطلاق الوعود بتحسين الوضع المعيشي لمواطنيه وضرورة أن تكون للتنمية الاقتصادية أولوية قصوى في بلاده. لكن «الزعيم الملهم» لم يبح بتفاصيل ووسائل خططه «الجهنمية». وهذا بطبيعة الحال أربك المراقبين، وجعلهم يتساءلون عن كيفية تحقيق التنمية الموعودة في بلد يئن من العزلة والجوع ويعيش أسيراً لنظام حديدي صارم ومغلق، خصوصاً في هذا الوقت الذي يسود العالم فيه الكساد وتراجع معدلات النمو. غير أنه لم تمر سوى أيام معدودة على بدء العام الجديد، إلا والزعيم الكوري يعاود سياسة تهديد جيرانه والولايات المتحدة الأميركية، ويتحدى المجتمع الدولي، بتفجير القنبلة الهيدروجينية (الاندماجية أو الحرارية والتي تعد أخطر أسلحة الدمار الشامل). هنا فقط عرف العالم كيف سينفذ «كيم» الثالث خططه التنموية الموعودة. إنه يكرر أسلوبه وأسلوب والده الابتزازي الذي انتهجه في السابق مع كوريا الجنوبية والغرب ومفاده: «أغدقوا علي المساعدات التنموية مقابل التوقف عن تحويل حياتكم إلى جحيم». ومن غرائب الصدف أنه بينما كان النظام الكوري الشمالي يفعل هذا في الشرق الأقصى، كان شريكه النظام الإيراني يفعل شيئاً مشابهاً في الشرق الأوسط من خلال التصعيد مع جيرانه وإطلاق التهديدات ضدهم، ولسان حاله يقول: «اعترفوا بي كقوة إقليمية مهيمنة، واتركوا لي الحبل على الغارب مقابل كف الأذى عنكم». كان ذلك نموذجاً للعته السياسي في آسيا في مطلع العام الجديد، قابله نموذج للرشاد والحكمة الآسيوية تجسد في كلمة رئيس الحكومة اليابانية «شينزو آبي» إلى شعبه، والتي حملت وعداً منه بعدم إقحام اليابان مجدداً في أي حروب، وذلك تطبيقاً لقانون جديد من أجل السلم والأمن سيبدأ سريانه الخريف المقبل، ومما قاله «آبي» في هذا السياق: «لقد وضعنا الأسس القانونية التي سوف تسمح لنا بنقل البلاد إلى أولادنا وأحفادنا وهي في حالة سلام». أما النموذج الذي يعكس حالة وسطى بين الحالتين الكورية واليابانية فهو النموذج الصيني، فبكين تتبنى خطاباً تصعيدياً إزاء دول جنوب شرق آسيا من تلك التي تتنازع وإياها ملكية مجموعة من الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي تُعرف باسم «أرخبيل سبراتلي»، بل وتستفز واشنطون التي لها تحالفات استراتيجية مع تلك الدول بطريقة قد توتر الأوضاع في المنطقة، خصوصاً في ظل إقدام الجيش الأحمر الصيني على تعزيز قدراته العسكرية ببناء حاملة طائرات ثانية تزن 50 ألف طن، فضلا عن قرار الحكومة الصينية ببناء جزر اصطناعية في هذا الأرخبيل وتوسيع سيادتها عليه. وبكين من جهة أخرى لا تبدو مستعدة لتقديم أي تنازلات في ما خص مطالب شعب هونج كونج بالديمقراطية، بل تسعى من خلال الحكومة الموالية لها في المستعمرة البريطانية السابقة بقيادة «ليونغ شون ينغ»، إلى القضاء على حركة «المظلات الصفراء» المنادية بالديمقراطية، ناهيك عن سعيها لإحكام ربط هونج كونج بالبر الصيني بدليل إيعازها لحكومة الجزيرة بإنفاق ما لا يقل عن 11 مليار دولار في هذا الوقت الصعب اقتصادياً على مشروع لشق طريق سريع يربط الجزيرة بالوطن الأم. وبكين من جهة ثالثة ستواجه في العام الجديد نمواً أقل بكثير مما اعتادت عليه في السنوات الماضية. فمن بعد معدلات فاقت العشرة بالمائة، لا يتوقع أن تتجاوز معدلات النمو في 2016 نسبة 6.7 بالمائة بحسب التقارير الصادرة من البنك الدولي، الأمر الذي قد يجر معه بعض القلاقل. أما كوريا الجنوبية، أكبر رابع اقتصاد في آسيا، فقد استقبلت العام الجديد بتقارير اقتصادية غير مشجعة حول أرقام صادراتها. فالاقتصاد الكوري الجنوبي الذي يعتمد على التصنيع والتصدير إلى الخارج سيتأثر سلباً في عام 2016 كنتيجة لارتفاع سعر العملة المحلية (الوون) مقابل انخفاض سعر الين الياباني واليوان الصيني، ثم بسبب تباطؤ الأسواق الناشئة وانخفاض أسعار النفط، لاسيما أن هذا المنحى بدأ في العام الماضي حينما هبطت قيمة صادرات البلاد بنسبة 7.9 بالمائة. غير أنه رغم هذا لم يسمع العالم من قادة البلاد ما يوحي بانكفائهم لجهة الاستثمار في العلوم والتدريب والبنية التعليمية. بل العكس، سمع العالم إصراراً من سيؤول للمضي قدماً في مشروع بقيمة عشرين مليار وون كوري لاستكشاف القمر بدءاً من العام الجاري على أن ينتهي المشروع في عام 2020 بإنزال مركبة ذات تقنيات كورية خالصة على سطح الكوكب. هذا، ونرى أن شطر كوريا الجنوبي في عام 2016، كما في الأعوام السابقة، يعمل من أجل العلوم وخير البشرية، بينما يحمل شطرها الشمالي معاول الشر ويعمل من أجل تدمير البشرية.