رسّمت عبوة «حزب الله» اللبناني في قفر منطقة شبعا ومزارعها، والردّ الإسرائيلي المضبوط عليها، حدود الصراع الدائر بين الطرفين راهناً. فالحزب إنما نفذ عملية لرفع العتب، تستجيب لما جاء في الخطاب الأخير لأمينه العام حسن نصر الله لجهة الانتقام لقتيله سمير القنطار، كما تؤكد أن مبدأ «الوعد الصادق» لا يزال معمولاً به، وأنّ الحزب «لن ينسى فلسطين». وهذا ما بات مُلحاً أكثر من أي وقت سابق مع تعاظم الاستغراق الطائفي لـ«حزب الله» في النزاع السوري، لاسيما وقد انكشفت، على نطاق عالمي، الطبيعة الوحشية لحصاره بلدة مضايا السورية وتجويع أهلها والنازحين إليها من الزبداني. في المقابل، من الواضح أن «حزب الله» آثر، عبر عبوته تلك، ألاّ يستفز الغضب الإسرائيلي وألاّ يحيي جبهة الاشتباك مع الدولة العبرية ويوسعها. فهو خير العارفين بأن إسهامه الواسع في الحرب السورية لا يتيح له كماليات حرب أخرى تنعدم حالياً كل الأدوات والشروط التي تتطلبها. لكن الحزب يعرف أيضاً أن وجهة التوتر المتصاعد في عموم المنطقة سوف تسد في المدى المنظور باب التسويات الذي كان قد بدا، قبل أسبوعين فحسب، مفتوحاً. ففي اليمن كما في العراق وسوريا، وربما في بلدان عربية أخرى، يصعب أن تكون الحلول سريعة أو سهلة. وهذا ما يعني حكماً أنّ تورط «حزب الله» في الصراع السوريّ سيشتد وتتضاعف مصاعبه وتتعاظم أكلافه في الفترة القصيرة المقبلة. وغني عن القول إن تقديراً (صائباً) كهذا يضيق الخيار، وهو ضيق أصلاً، للحرب مع إسرائيل. أما الأخيرة فأغلب الظن أن حساباتها العربية تقتصر اليوم على الإمساك بالحدود والتفرج على التدمير والتدمير الذاتي في المحيط العربي العريض. ومن هذا القبيل عملها لمنع إيران من إنشاء بؤر لنفوذها في الجنوب السوري والجنوب اللبناني تستفيد منها كأوراق ضغط في أية عملية تفاوضية حين يحين زمن التفاوض. وإنما في هذا الباب يندرج قتلها «جهاد عماد مغنية» ومن بعده «سمير القنطار». الصراع على الفراغ السوري والتحكم بعمليات ملئه يرتب راهناً تغييراً يُحدثه الطرفان، إسرائيل و«حزب الله»، في طبيعة النزاع الذي يزداد ضموراً وهامشية. فلا الحزب، والذي تقول روايته عن نفسه إنه ولد لمقاتلة إسرائيل، يريد أن يقاتلها فعلاً، ولا الدولة العبرية معنية، فيما يخص الدول المجاورة لها، بما يتجاوز الحدود المباشرة وإحكام السيطرة الأمنية والعسكرية عليها. وهذا يعني أن الصراع مع إسرائيل غدا موضوعاً دولياً يناط بالعالم، عاجلاً أم آجلاً، أمر حله والتعامل معه. وقد يقال بحق إن العالم هذا، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية في ظل باراك أوباما، غير معني بهذه المسألة. غير أن فترة ما بعد أوباما (الذي تنتهي ولايته هذا العام) لا تستطيع تجاهل هذه المشكلة فيما تواجه مجموع مشاكل المنطقة. وربما جاز القول، في هذه الغضون، أن ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصاً ما يحدث في أوساط العرب الإسرائيليين في أراضي 1948 صالح لأن يحرك بعض المياه الراكدة، فينوب عن بطء التدخل الدولي كما ينوب عن ميل القوى المحلية، لاسيما منها «حزب الله»، إلى ترسيم حدود الصراع وإبقائه في الثلاجة. فإذا صحّ أن الفلسطينيين، بمن فيهم فلسطينيو 1948، محشورون في مواجهة غير متكافئة مع الدولة العبرية، وإذا صح أيضاً أن العرب مشغولون بهمومهم المباشرة والكثيرة، صحّ أيضاً أن إسرائيل مضطرة لأن تنتبه إلى ما لم تنتبه إليه من قبل. ذاك أن نظرية الواحة الهانئة في محيط مضطرب تبقى أقرب إلى الخرافة عملياً. ------------------ *كاتب ومحلل سياسي- لندن