في سنة 2015، لوحدها، ضرب الإرهاب في فرنسا مرتين: الأولى في يناير، واستهدف خلالها مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة ومتجراً يهودياً للمواد الغذائية، والثانية في نوفمبر، وضرب خلالها مواقع مختلفة من العاصمة باريس، أبرزها مسرح باتكلان. وقبل ذلك بنحو ثلاث سنوات، كان الإرهاب قد ضرب مدينة تولوز، لتكون فرنسا بذلك أكثر بلد أوروبي وغربي اكتواءً بنار الإرهاب. وفي كتابه الجديد «رعب في فرنسا»، يحاول الباحث الفرنسي المتخصص في الحركات الإسلامية جيل كيبيل، استجلاء أسباب هجمات باريس الأخيرة، والتي استهدف فيها متطرفون مسرحاً ومطاعم وحانات في العاصمة الفرنسية مساء الثالث عشر من نوفمبر الماضي، وقتلوا خلالها 130 شخصاً. ولهذا الغرض، يعود بنا إلى 1983 التي يعتبرها سنة مفصلية، عندما نظّم عشرات الشباب المنحدرين من أصول شمال إفريقية مسيرة احتجاجية من مارسيليا إلى باريس عقب سلسلة من الأعمال العنصرية. وبحلول الوقت الذي استقبل فيه الرئيس الفرنسي وقتئذ، فرانسوا ميتيران، ممثلي المحتجين في قصر الإيليزيه، كان عدد هؤلاء قد ارتفع إلى 100 ألف، وكانوا ينددون بالتهميش والعنصرية ويطالبون بالمساواة وبدور أكبر في الحياة الديمقراطية في فرنسا. لكن بدلاً من العمل على تيسير اندماجهم السياسي، ركز ميتران على مسألة العنصرية فقط، وهو ما دفع كيبيل للقول: «لقد ضيعنا 20 سنة على الأقل»، مضيفاً: «كان من الممكن أن يكون لدينا الآن جيل نموذجي يكون قدوة للآخرين ويتزعم الطريق». أما الفرصة الضائعة الأخرى، حسب كيبيل، فجاءت بعد الاحتجاجات التي اندلعت في ضاحية كليشي بوا الباريسية في خريف 2005. وهي الاحتجاجات التي شكّل شرارتها الأولى الموت العرضي لمراهقَين من سكان الضواحي صعقاً بالكهرباء، عندما اختبآ من الشرطة التي كانت تطاردهما في محطة كهربائية، ثم تأججت عندما أطلق ضباط شرطة الغاز المسيل للدموع «عن طريق الخطأ» على مسجد الحي. وتعليقاً على هذه الحادثة، يقول كيبيل: إن النخب الفرنسية رفضت الاعتراف بأن الدين كان الدافعَ لتلك الاحتجاجات، وسببَ انتشارها إلى مناطق أخرى. ووسط الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، والتمييز، والبطالة المتفشية في الضواحي، أصبح الإسلام «محدداً للهوية لا يمكن كبحه». وبالتوازي مع ذلك، اكتسبت «السلفية» قوة وزخماً، ووجدت لها أتباعاً ومؤيدين، واختارت مجموعات سلفية جديدة الاستقرار في مناطق ريفية مهجورة، مثل آرتيجا في جنوب غرب فرنسا. ويرى كيبيل، الذي ألّف هذا الكتاب رفقة عالم الاجتماع أنتوان جاردان، أن نيكولا ساركوزي، الذي كان وزيراً للداخلية خلال احتجاجات كليشي، أخفق في فهم طبيعة التهديد المحدق. إذ بدلًا من معالجة المشكلة واحتوائها، جنح إلى اليمين أكثر، ما ساعده على الفوز بأصوات المتعاطفين من حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف في حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2007. لكن كيبيل لا يعفي اليسار من المسؤولية أيضاً. فبعد إخراج ساركوزي من الإيليزيه في 2012، جزئياً بفضل دعم الأصوات المسلمة، فشل فرانسوا أولاند في معالجة مشاكل الضواحي. وبالتوازي مع ذلك، أخذ بعض الشباب المسلم التوجه إلى سوريا بعد اندلاع الحرب هناك للانضمام إلى التنظيمات المتطرفة، مما زاد من خطر عودة مقاتلين فرنسيين سابقين لتنفيذ هجمات إرهابية في فرنسا. ولعل شعاع التفاؤل الوحيد في الكتاب هو أن هجمات باريس الأخيرة كانت عشوائية ولم تميز بين ضحاياها، حيث كان منهم المسيحي والمسلم واليهودي، مما أدى لتعزيز اللحمة الوطنية وتوحيد المجتمع الفرنسي بدلاً من تقسيمه، إذ يقول كيبيل: «حتى أعتى السلفيين شعروا بأنهم فرنسيون ذاك اليوم». محمد وقيف الكتاب: رعب في فرنسا المؤلف: جيل كيبيل الناشر: جاليمار تاريخ النشر: 2015