وسط تفاقم ملحوظ لظاهرة الإرهاب في المنطقة، يتعين فهم الظاهرة الاجتماعية كما حاول الفرنسي جان جاك روسو فهمها؛ فالأمراض الاجتماعية تنتقل بوحدات فكرية كما تنتقل الأمراض البيولوجية بوحدات من فيروس وجرثوم. ولد الناس أحراراً متساوين، لكنهم يرزحون في الأغلال في أماكن كثيرة. هكذا تكلم روسو. ولد الفيلسوف روسو عام 1712 في جنيف إثر تعرض أمه لنزيف خطير، وبعد ولادته بساعة ماتت، بينما كان أبوه منفياً من المدينة. وهكذا تعلم «جان» الفلسفة من رحم المعاناة. لمع هذا الرجل للطبيعة الحامية التي تميز بها، والكم الهائل من الأفكار الثورية التي قذفها إلى ساحة الفكر، فقد رأى أن ما يغير الإنسان هو الأفكار الاجتماعية والنفسية أكثر من الفيزياء والكيمياء أو التأمل في قوانين البيولوجيا. بعبارة أخرى فإن البيئة الثقافية هي التي تصنع المجرم، والثقافة هي التي تورد الإرهابيين. وقد كتب روسو في السياسة بعنوان «مقالة في أصل الظلم»، وفي التربية «أميل»، وفي علم الاجتماع «العقد الاجتماعي» الذي ذكر فيه أن القانون هو ما سطر في القلوب أكثر منه ما كتب على الصفحات. كما كتب مذكراته الشخصية بعنوان «الاعترافات»، وهي جد ممتعة. وقد نقل عنه عالم النفس السلوكي (سكينر) بإعجاب فكرته حول توليد السلوك عند الطفل. وفي بداية حياة روسو التمع اسمه مع المفكرين الفرنسيين المهمين مثل فولتير وديدرو صاحب الموسوعة وكذلك دالمبير، لكنه اختلف في آرائه عنهم شيئاً فشيئاً، فقد رأوا فيها تطرفاً غير مقبول؛ مثل قوله إن المسرح مدرسة الرذيلة! وعندما سئل أي الاثنين كان له الدور الأكبر في تقدم الإنسانية العلوم أم الفنون؟ كان جوابه: كلاهما عمل على تخريب الإنسان! لذلك فقد دعا للعودة إلى الطبيعة. وأجمل آرائه كانت في التربية حين نصح الأمهات بالالتصاق الجيد بأبنائهن، وأن يعيش الطفل في حضن أمه فترة طويلة، فيكسب الرحمة والحنان واحترام الحياة والثقة بالعالم والمستقبل. ومن أشد آراء روسو تطرفاً ما تبنته النظريات الفوضوية والشيوعية في نقض بنيان الدولة لأنها سبب كل فساد! وعندما عثر على صبي «أفيرون» الوحشي في الغابة، وكان غلاماً قد أهمل وترك للغابة يعيش فيها، قال عنه روسو: انظروا إلى الطبيعة كيف تفعل بالإنسان؟ وانظروا إلى الحضارة ماذا تفعل بالإنسان حينما تسلب منه كل مقاومة بدنية وكل فضيلة غريزية وكل نور فطري؟ والحقيقة أن قسماً من كلامه صحيح، لكن ولادة المجتمع لم تكن برغبة من الإنسان بقدر الضرورة لذلك، ولولا المجتمع الفرنسي لم يتطور روسو نفسه إلى رتبة الفلاسفة بجدارة، ويكتب ما كتب في التربية والمجتمع، ويصلنا هذا بعد موته بمئات السنوات. لم يكن روسو ذلك الرجل الملتزم بالحياة العائلية المستقرة، بل عاش حياة بوهيمية ذكرها بالتفصيل في كتابه «الاعترافات»، وربما تذكرنا قصته بالفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي، كما جاءت في سيرته الذاتية، والذي لم يرتبط بزواج رغم ارتباطاته النسائية الكثيرة، فبكى على افتقاره للحياة الأسرية في شيخوخته.. وهذا من جنون الفلاسفة. وفي نهاية حياته مات روسو مكتئباً حزيناً بسبب نفور الناس من أفكاره من جهة، وللاضطهاد السياسي من جهة ثانية، والأنظمة الشمولية تستل الروح وتقتل الأمة قتلاً، فلا يصبر عليها المفكرون، فيرحلون تاركين المجتمع لمصيره، وهذا الذي كان من خبر الثورة الفرنسية التي حملت رؤوس الطبقة الأرستقراطية إلى المقصلة، وقد مات روسو عام 1778، أي قبل اندلاع الثورة بـ11 عاماً فكان لها نذيراً وبشيراً.