يتردد بين الحين والآخر ما يتداوله علماء السياسة عن ظاهرة عودة الحضارات القديمة إلى الريادة، ولكن ثمة ظاهرة أخرى جديرة بالاهتمام هي أن قوى إقليمية على ضفاف الحضارات الكبرى كانت يوماً محضنا لثورة حضارية، وخزاناً لوقودها يمكن أن تستعيد مكانتها مرة أخرى، إذا كانت لاتزال تحتفظ بالنسغ الذي يغذيها والجذور التي تمدها بالبقاء. الموقف السعودي والخليجي الصارم الذي أعقب الأعمال الإرهابية التي استهدفت السفارة السعودية وقنصليتها في إيران بعد إعدام المملكة لعشرات الإرهابيين بمن فيهم السعودي نمر النمر، هي نقطة تحول كبير. إن قطع العلاقات الدبلوماسية وطرد السفير الإيراني من البلاد كان ضروريا لتثبت المملكة لإيران وللعالم مكانتها وقوتها وقدرتها على حشد موقف دولي ضد الاستهتار الإيراني. بعد قرابة أسبوع من الاعتداءات أعلن الإيرانيون استعدادهم لإجراء تحقيق في الحادث، وأعفي المسؤول عن الأمن في إيران من منصبه، وأرسل الإيرانيون رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يعبرون فيه عن أسفهم. وقد حشدت السعودية إجماعاً خليجياً مؤيداً، وتسعى إلى موقف عربي موحد، وموقف إسلامي داعم من 52 دولة عضوا في منظمة التعاون الإسلامي. فالبلطجة لا مكان لها اليوم في عالم السياسة، ولا يمكنها أن تحظى باحترام ولا قبول. في مقالة جميلة لخيرالله خيرالله، استعرض فيها كيف واجهت السعودية الزلازل والعواصف والتحديات الكبيرة التي عرفتها منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، من انهيار دول عربية تسببت بها مؤامرات عبدالناصر، وقيام أنظمة شيوعية معادية لها وعلى حدودها كما في اليمن الجنوبي إبان الحرب الباردة، إلى حروب أحاطت بها كان شررها يتطاير على حدودها، إلى تجنيد ميليشيات شيعية تابعة لإيران سعت إلى الإطاحة بالحكم في البحرين. كل ذلك آل إلى الفشل. يؤكد خير الله أن مشكلة الإيرانيين هي الجهل بتاريخ السعودية، فهم لا يعرفونها جيداً، ولا يعرفون كيف واجهت التحديات والزلازل التي مرت بها، وعصفت من حولها، وكيف نجحت المملكة في تجاوزها بعد كل منعطف حرج أقوى وأصلب. جهل الإيرانيين بالمملكة دفعهم مراراً إلى التلاعب بمجموعات شيعية وسنية لتنفيذ مخططات للإضرار بالمملكة، من أعمال إرهابية إلى التجسس، إلى الدوران في فلك الدعاية الإيرانية. وتثبت المملكة مع كل أزمة ومع كل خيانة تتكشف أنها طود شامخ تتهاوى أمامه كل المؤامرات والمخططات، جوهر هذا الاستقرار الراسخ قوة حكم العائلة السعودية، والشرعية المتجذرة للقيادة السياسية والرسالة التي اضطلعت بها. منذ سبعين عاماً والمملكة تؤكد للعالم أنها دعامة الاستقرار، ساندت أكبر دولة عربية مصر وحالت دون انهيارها وسقوطها لقمة سائغة للإرهاب والفوضى، وحمت الخليج واتخذت القرار المناسب لإعادة الاستقرار إلى اليمن ودعم الشرعية، ووضع ميليشيات الحوثي في مكانها وحجمها. كل ذلك لم يكن له أن يتحقق من دون دعم أشقائها وجوارها، وعلى رأسهم الإمارات العربية المتحدة. إن أسوأ ما يمكن للإيرانيين أن يقوموا به هو أن يستثيروا في السعوديين غضبهم أو أن يتحدوا كبرياءهم. وكما أشار خير الله علينا ألا نندهش إذا سقط النظام الإيراني قريباً، بفعل الأزمات الداخلية، وحينها يكون التاريخ قد أكد سنته مرة أخرى.