قُطعت العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران في الثالث من شهر يناير الحالي، إثر الاعتداءات الهمجيّة التي تعرّضت لها كلاً من السفارة السعودية في طهران، وقنصلية المملكة في مدينة مشهد. والحقيقة أنّ الموقف الشجاع الذي وقفته دولة الإمارات العربية المتحدة ومعظم الدول العربية والخليجية من هذه الاعتداءات وقطعها للعلاقات مع إيران، أو تخفيض مستواها، قد أرسلت رسالة قوية للحكومة الإيرانية، بأنّ سياساتها القائمة على التدخّل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، وكذلك تحريض زعمائها للدهماء وتجنيدها للباسيج لمهاجمة المقارّ الدبلوماسية للدول الأخرى، أمرٌ لا يمكن قبوله، وهو سمة من سمات الدول غير المتحضّرة. وقد جاء في بيان مجلس الأمن الدولي إدانة هذه الأعمال وحضّ حكومة طهران على احترام القانون الدولي ومعاهدة فيينا، كدعم دولي لموقف المملكة الحازم ضد التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لدول الجوار العربية. ومن يتقصّى تاريخ العلاقات الثنائية بين الجانبين، فإنه سيرى أنّ هذه الحادثة لم تكن الأولى من نوعها، وربما لن تكون الأخيرة في هذا الشأن. فقد قُطعت العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران عام 1944، لمدة عامين، إثر حرق محتجّين إيرانيين لمقرّ السفارة السعودية حينذاك. وفي عام 1988م، تمت مهاجمة كلاً من السفارة السعودية والكويتية في طهران، وقتل الدبلوماسي السعودي المرحوم مساعد الغامدي، وإثر ذلك قرّر الملك فهد –رحمه الله-، قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، ولم تعد العلاقات لسابق عهدها إلا في عام 1991، على يد كلٍ من المرحوم الملك عبدالله، حين كان وليًّا للعهد، والرئيس هاشمي رفسنجاني. كما أنّ الثقافة السياسية في إيران تنزع في بعض الأحيان لاستخدام العنف ضد السفارات والبعثات الدبلوماسية الأجنبية، فمنذ أن قُتل القنصل الروسي في طهران عام 1829، تعرّضت المقار الدبلوماسية الأجنبية لثمانية اعتداءات رئيسة كان من بينها اعتداءات ضد سفارات إسلامية مثل السفارة الباكستانية، عام 2009، إضافةً للاحتجاز الشهير للدبلوماسيين الأميركيين عام 1979. وكل ذلك يُظهر بوضوح أنّ موضوع تجنيد الشارع الإيراني والغوغاء ضد السفارات والبعثات الدبلوماسية الأجنبية، هي للأسف، جزء أصيل من الثقافة السياسية لبعض زعماء ذلك البلد. ولذلك، فإنّ محاولات روحاني وظريف وغيرهم إبراز صورة إيجابية مغايرة للصورة الذهنية عن إيران في الخارج، ترينا أنّ محاولة التجميل هذه لا يمكن لها أن تطمس الملامح الرئيسة للنظام السياسي لدولة الفقيه. ولا تتعامل إيران مع الدول الأخرى من منطق المساواة أو حتى الأخوة الإسلامية، فهي تسعى بشكلٍ حثيث لتصدير منهجها الطائفي إلى الدول الأخرى وأعمالها الشهيرة بزرع الأحزاب الطائفية والميليشيات في العراق ولبنان وسوريا، وحتى في بعض الدول الأفريقية، ترينا بوضوح الطابع الطائفي لتلك السياسات. وبما أنّ السياسة الخارجية ليست إلا انعكاسًا للسياسات الداخلية، فإنّ السياسات التي تمارسها الحكومة الإيرانية داخل بلادها ضد أبناء السُنّة، والطوائف والشعوب المختلفة داخلها، أمرٌ يندى له الجبين. ولعلّ الحكم بإعدام الداعية الإسلامي شهرام أحمدي في 30 أكتوبر من عام 2015، وهو رجل دين مسالم لم يدعُ أبدا إلى العنف، إلا أنّ مذهبه وانتمائه للأقلية الكردية في البلاد كانا كافيين لإصدار المحكمة العليا الإيرانية قرارًا بإعدامه، خلال محاكمة لم تدم سوى خمس دقائق. وطال الإعدام عدداً آخر من الدعاة المسلمين في إيران، وهناك 27 داعية مسلماً يقبعون في سجن (رجائي شهر) بطهران، وتهمتهم الرئيسة أنهم أنشؤوا حلقات لتدريس القرآن الكريم للأطفال. وبالرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، فقد أوضح وزير الخارجية السعودي أنّ المملكة لا تزال ترحب بالحجّاج الإيرانيين، رغم أنّ هؤلاء الحجاج أو وكلائهم ربما يضطرون إلى السفر إلى بلدان ثانية كتركيا، أو باكستان، للحصول على تأشيرات قدوم إلى المملكة. وتحاول بعض الدول أن تقوم بدور الوساطة بين المملكة وإيران، فقد أعربت كلاً من روسيا وتركيا بأن تقوم كلٌ منهما بالوساطة بين الدولتين، لإعادة المياه إلى مجاريها. وتحرص كل من روسيا وبقيّة الدول الأعضاء في منظمة «أوبك» على ترميم العلاقات الثنائية، للأثر السلبي الذي قد يتركه مثل هذا التوتّر على لُحمة منظمة «أوبك»، وكذلك على مستوى الأسعار المتدهورة لبرميل النفط. وقد شهدنا كيف أثّرت المصالحة السعودية – الإيرانية إيجابًا على أسعار النفط المتدنّية عام 1998م. وقد وضع كلاًّ من الوزير السعودي عادل الجبير، والسفير عبدالله المعلّمي، شروطًا لإعادة العلاقات الدبلوماسية، من بينها عدم التدخّل الإيراني في الشؤون الداخلية للدول العربية، ومنها المملكة العربية السعودية. فلم يعيّن أحدًا إيران لتتحدث باسم العرب أيًّا كانت مذاهبهم أو منطلقاتهم الإيديولوجية، وعليها الاهتمام بشعبها والشعوب التي تعيش داخل أراضيها، ومنها كلاً من الشعوب العربية والكردية والبلوشية التي تمثّل نصف تعداد سكان البلاد. د. صالح بن عبدالرحمن المانع *أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود