حاولت في المقال الماضي التعريف بالإنجاز العلمي المهم الذي حققه الدكتور «رشدي راشد»، والذي جعله مؤرخاً عالمياً لتاريخ العلوم العربية، ووعدت بأن أفسر سرّ اطلاعي على مسيرته الأكاديمية بعد أن غادر مصر إلى فرنسا للتخصص في الفلسفة وتاريخ العلوم، والواقع أن هذا الموضوع له علاقة وثيقة بمشكلة العلم والسياسة، وذلك لأن جماهير المثقفين ومن بينهم الباحثون العلميون وأساتذة الجامعات كان لهم دائماً في مصر دور ملحوظ في الحركة الوطنية وفي الممارسة السياسية، ومن هنا يمكن التأكيد على أنه ليس هناك تناقض بين أن يكون المرء مثقفاً ملتزماً وباحثاً علمياً من طراز رفيع في الوقت نفسه. مع أن هناك في الفكر الاجتماعي نظريات محافظة تذهب إلى أن المسار السياسي -الذي قد يدفع بالمثقف إلى ممارسة المعارضة ضد بعض نظم الحكم وخصوصاً السلطوية منها- قد تعرقل مسيرته العلمية. غير أنه بصفة عامة -وفي المجتمعات المعاصرة كافة- نجد علماء وأساتذة جامعيين بارزين نجحوا في التوفيق بين المسار السياسي والإنجاز العلمي، وربما كان النموذج الأبرز في ذلك «نعوم تشومسكي» عالم اللغويات الأميركي الشهير، والذي أصبح في مقدمة المثقفين النقديين في العالم بحكم نقده الجذري للممارسات الإمبريالية للولايات المتحدة الأميركية، لأن هذا العالم الفذ يعد أبرز علماء اللغويات في القرن العشرين بحكم نظرياته الإبداعية في هذا المجال والتي ترتب عليها إعادة تكوين علم اللغة. والمثقفون المصريون الذين شاركوا في كل معارك مصر الوطنية منذ ثورة 1919 حتى ثورة 23 يوليو 1952 كان من بينهم أساتذة جامعيون وباحثون علميون بارزون، وكانوا يتوزعون في المرحلة الليبرالية بين حزب الوفد الذي كان حزب الأغلبية في الفترة من 1923 حتى 1952 وأحزاب الأقلية مثل حزب «السعديين» والأحزاب الراديكالية مثل حزب «مصر الفتاة»، والذي تحول في الخمسينيات ليصبح «الحزب الاشتراكي» بالإضافة إلى عضوية البعض في جماعة الإخوان المسلمين، ولا يخرج كاتب المقال عن هذا المسار لأنني في عام 1950 انضممت إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في الإسكندرية، ودرست في مدرسة «الدعاة» بشعبة محرم بك والعطارين، وهي التي تخرج الدعاة الذين توكل إليهم مهمة الخطابة الدينية. دخلت جماعة «الإخوان المسلمين» لأنه كانت تؤرقني مشكلة التفاوت الطبقي الرهيب في المجتمع المصري قبل ثورة يوليو 1952، وكنت أبحث عن نظرية لتفسير هذا التفاوت سعياً وراء العثور على حل لتحقيق العدالة الاجتماعية. غير أنه –نظراً لعدم قبولي مبدأ «السمع والطاعة» ورفضي مهاجمة هيئة التحرير أول تنظيم سياسي أنشأته ثورة يوليو 1952 كما طلب مني قادة الجماعة -دفعني عام 1954 وكنت طالباً بكلية الحقوق إلى الاستقالة من الجماعة بعد أن أدركت مبكراً أن المثقف الحريص على استقلاله الفكري، قد لا يتلاءم مع تقاليد الأحزاب السياسية التي تطالب أعضاءها باحترام مبدأ الالتزام الحزبي حتى لو كان رأيه يختلف مع رأي الحزب في قضية من القضايا. أردت من هذه المقدمة أن أبين أن تجربتي السياسية القصيرة هي التي دفعتني إلى أن أكون مثقفاً مستقلاً لا يقبل الانضمام إلى أي حزب سياسي. وفي عام 1964 أوفدني المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية في بعثة إلى فرنسا لاستكمال دراساتي العليا والحصول على الدكتوراه في القانون الجنائي. وقد اخترت أن أتوجه إلى مدينة «ديجون» وهي مدينة صغيرة وعلى بعد حوالي 200 كيلومتر من باريس. ووسط انشغالي بالتحضير لدبلوم الدراسات العليا اكتشفت من جريدة مصرية كانت ترسلها للمبعوثين المصريين في الخارج بانتظام «منظمة» الشباب أن المشير «عبد الحكيم عامر» في زيارة له في باريس قابل وفداً من المبعوثين المصريين إلى فرنسا في مقر السفارة المصرية في باريس، وأنهم جابهوه بانتقادات شتى للممارسات السياسية والاقتصادية للنظام الناصري مما دفعه –عقب عودته إلى مصر- إلى أن يناقش الموضوع مع الرئيس «جمال عبد الناصر»، والذي كان حريصاً على التواصل مع أجيال الشباب، والدليل على ذلك أنه أمر بتأسيس «منظمة الشباب» التي تولت تدريب العشرات من الشباب ليصبحوا كوادر سياسية اشتراكية فاعلية، وخصوصاً بعد إنشاء المعهد العالي للدراسات الاشتراكية بعد أن تبنى النظام الناصري الاشتراكية كعقيدة رسمية للدولة. هذا فصل من الفصول المهمة لعلاقة العلم بالسياسة في مصر المحروسة.