في الموقف من المختلف دينياً أكثر من اتجاه، فالمتطرّف يدعو لاستئصاله، والمتشدّد يدعو لمنعه من ممارسة اعتقاده، واتجاه ثالث يعتقد بأن المختلف ضالٌّ أو كافرٌ، لكنه يرفض معاداته والتحرش به والتهييج ضده، بل يدعو إلى الاعتراف به، والتعايش معه. ويعرّف الاتجاه الثالث نفسه بأنه وسطي يؤمن بثقافة الاختلاف، والتي يقيمها على مبدأ الاعتقاد بالمثل، لأنه يقول: المختلف يعتقد أنني ضالٌّ أو كافرٌ، وأنا أعتقد أنه ضالٌّ أو كافرٌ، لكن اختلافنا لا يستوجب عداوتنا. والاتجاه الثالث حضاري بطبيعة الحال، لكن يصعب القول إنه مؤمن بثقافة الاختلاف، فهذه الثقافة ليست شأناً دبلوماسياً لتقوم على مبدأ المعاملة بالمثل، بل هي كاللباقة، تنبع من داخل المرء ولا يتخلى عنها حتى عند تعامله مع مَن لا يتحلى بها، ومبدأ الاعتقاد بالمثل يَفترض أن المختلف يُضلل ويُكفّر غيره، وهو افتراض في غير محله، إذ ليست كل المذاهب والأديان تعتقد بضلال أو كفر من يختلف معها، كما أن هذا المبدأ قد يتزعزع إذا ما أعلن المختلف أنه لم يعد يعتقد بضلال أو كفر الآخرين، إذ ماذا سيكون الموقف منه حينئذٍ: هل سيظل ضالاً أو كافراً أم أنه لن يعود كذلك من باب الاعتقاد بالمثل؟! وماذا لو اتخذ المختلف موقفاً تصادمياً، وأعلن أنه يعادي من يختلف معه، فهل سيبقى الوسطي وفياً لثقافة الاختلاف ويظل يدعو إلى التعايش معه؟! ويضاف إلى هذا أنَّ المذاهب والأديان ليست سواء في ترتيب النتائج على التضليل والتكفير، فمن يعتقد بصواب عقيدته وخطأ عقيدة الآخر، وينتهي الأمر عند هذا الحدِّ لديه، ليس كمن يعتقد بصوابيته وخطأ الآخر، ويعتقد أيضاً أنه ملزم بتصحيح عقيدة المختلف أو بمعاداته أو بقتاله، ومن ثم، فمبدأ الاعتقاد بالمثل لا يكون متحققاً فعلياً، كما أن الدعوة للتعايش مع المختلف لا قيمة لها بعد تضليله وتكفيره، فإذا كان المتطرّف والمتشدّد يفتحان الباب لاستئصاله ومعاداته، فالوسطي يُبقي ذلك الباب موارباً، وتبقى ثقافة الاختلاف بالصيغة التي يعتقدها مهزوزة وغير مقنعة. وإذا كانت ثمة ثقافةُ اختلافٍ، فهي تلك التي تنبع من الاعتقاد بأن المختلف، مهما كان اعتقاده، ليس ضالاً ولا كافراً وإنما مختلفٌ فقط، وافتراض أنه صادق مع نفسه، وصادق في توجهه، ينشد ما ينشده كل الصادقين مع أنفسهم وفي توجههم، ويسعى إلى ما يسعون إليه، وأنه رفيق لهم في الطريق إلى الله، غاية كل عابدٍ، وأن الاختلاف الديني كالاختلاف في الوجه واللون واللسان، لا يد لأحد فيه. أما الضال، فلا يكون كذلك إلا بعد معرفته الحق ثم الميل عنه، وهكذا بالنسبة للكافر، لا يكون كذلك إلا بعد استيقانه الحق ثم جحده ونكرانه، ولا أحد يمكن أن يطّلع على قلب المختلف عنه، ويرى أنه عرف الحق واستيقنه، ثم مال عنه وجحده، ليحقّ له أن يصفه بالضال والكافر، وهذا كله على اعتبار أن الحق هو ما نراه، وأن ما لا نراه حقاً هو باطل بلا كلام، وهو ما لا يمكن التحقق منه أيضاً، ليكون الأمر كله متروكٌ ليومٍ نرجع فيه إلى الله، فيحكم فيما كنا فيه مختلفين.