ما مدى صحة إطلاق مصطلح علوم سياسية بدلاً من شؤون سياسية أو أي مسمى آخر لا يربط السياسة بمفهوم العلم التجريبي القابل للقياس بصورة مخبرية؟ من التجارب العملية ظهر جلياً أن التخصص يُعد فناً وموهبة وخبرات متراكمة ونوعية المعلومات الداعمة لاتخاذ القرار أكثر من كونه علماً محضاً مع أنه يملك بعض السمات الأساسية ليصنف كعلم، بحيث يجب ألا يأخذ شيئاً مسلماً ولا يصدر التعميمات ويجنح للاستناد إلى الممارسات والأفعال والأحداث المرصودة ويجمع بياناتها ويحللها إحصائياً ويرفض التحيز الشخصي في صياغة النتائج التي توصل إليها، ولكن واقعياً كل ذلك لا يؤدي لنتائج أو توقعات متفق أو مُجمع عليها، ولذلك كل باحث سياسي له رأيه الخاص غالباً. وفي الكثير من الأحيان، نجد أن وجهة نظر أو توقعات رجل الدولة أو الزعيم السياسي، أو المواطن المهتم بالسياسة والمشارك فعلياً فيها أكثر نجاعة من الباحث الأكاديمي، وفرض منظور علمي للظواهر السياسية قد يؤدي إلى رؤية الأمور أقل أو أكثر كثيراً، مما هي حقاً عليه، وحتى الحكومات تلجأ لشخص متمرس في ممارسة الحياة السياسية أكثر من أي أكاديمي درسها، ولم يمارسها في حياته، فلا يحدث في العلوم التي نطلق عليها علماً أن يسأل مثلاً وزير الصحة صحفي متخصص في الأخبار الصحية عن خطورة فيروس ما بدلاً من العالم المتخصص في ذلك المجال ليبني عليه قرار. ومن بين الحجج التي تجعلني أزعم وأقف ضد الادعاء بأن العلوم السياسية علم بالمصطلح المتعارف عليه للتصنيف العلمي، هو عدم وجود توافق في الآراء بشأن طبيعة العلوم السياسية ولا يوجد اتفاق بين المتخصصين في السياسة حول الأساليب والمبادئ والاستنتاجات، وهو تخصص أبعد ما يكون عن اليقين والعالمية في القوانين، ويفتقر إلى مبادئ أو قوانين موحدة ونتائج أبحاثه ميول وترجيح أكثر من كونه قانوناً. وعلى الأرجح السلوك السياسي للإنسان لا يمكن توقعه بدقة لوجود عوامل لا يمكن رصدها في فكر ومشاعر الإنسان، وتجارب خارج حضور البيئة البحثية، وبالتالي من الصعب التوصل إلى الآراء والاستنتاجات الدقيقة والمحددة، وجودة القدرة على التنبؤ الذي يعتبر سمة رئيسية من قوانين العلوم الطبيعية، ولا يخضع التخصص لقانون السبب والنتيجة ولا يمكن إجراء التجارب المتعلقة بالتخصص في أي مختبر. والحياد والموضوعية موضع شك دائم، بسبب الخبرات السابقة للشخص، والعوامل التي تتدخل في صناعة القرار لديه، واتخاذ موقف محايد في التعامل مع القضايا السياسية يتأثر بالانحياز الشخصي. العلوم السياسية كتخصص اقترضت من العلوم الأخرى المتقدمة الكثير، مما أضفى عليها المزيد من الطابع العلمي في دراسة السلوك السياسي والمؤسسات السياسية والمقارنة بين الأنظمة السياسية والعلاقات الدولية وأنشطة المنظمات والأحلاف الدولية، وكذلك الجهات الدولية والمنظمات غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات، فالنظرية السياسية تحلل المفاهيم السياسية الأساسية مثل الديمقراطية والأسئلة الأساسية بين الحاكم والمحكوم ونظام الحكم وإدارة سياسة الدولة ومصالحها السياسية ونظرية السياسة وتطبيقاتها، ووصف وتحليل النظم السياسية وسلوكها السياسي وأثرها على المجتمع وحقول فرعية أخرى تتناولها العلوم السياسية كالفلسفة السياسية، وعلم السياسة المقارن والتطور السياسي والقانون الدولي وتاريخ الفكر السياسي والحريات العامة وحقوق الإنسان...الخ، ولذلك يراهن متخصصوه على كونه علماً يتم التوصل فيه إلى الحقائق السياسية عن طريق استخدام المنهج العلمي في الدراسة. ومن منظور آخر، ترتبط السياسة بالسلطة، وعليه فهي لا تتمتع بالحرية البحثية الكافية التي تتمتع بها باقي التخصصات العلمية، وكذلك الأولويات والافتراضات في ذلك التخصص، فلدينا سياسة وقيم لها تأثير على الدراسات ضمن إطار أيديولوجي وتأثير نخب مؤثرة والتخصص تطبيقياً لطالما انحرف عن بروتوكولات المنهج العلمي ليصبح أقرب للداعية إلى الحضارة الليبرالية، وفي الوقت نفسه جميل أن يتخصص الشخص في ذلك المجال المهم والحيوي كمدخل لفلسفة الحكم والحكمة السياسية وفق أفضل الممارسات، والتركيز على فن اتخاذ القرار والخبرات والمخرجات الميدانية، والاهتمام بالأرقام التي تؤيد تجربة سياسية أكثر من الأخرى، وإنْ كان لا يمكن تطبيق نفس التجربة في مجتمعين مختلفين بالضرورة، والحصول على نفس النتائج. ولذلك يعتبر البعض علم السياسة مقاربة فكرية لدراسة التجارب في التاريخ السياسي وفن وموهبة مدعومة بنوعية ووفرة الإطلاع.