بعد الصدى الطيِّب، الذي حققته سلسلة مقالات «شخصيات ومواقف» التي نشرتها العام الماضي على صفحات صحيفة «الاتحاد» الغرَّاء، أعود إلى القارئ الكريم في سلسلة مقالات أخرى عنوانها «أحداث غيَّرت التاريخ»، حيث أرجع فيها إلى التاريخ العربي والإسلامي والعالمي بقراءة معمَّقة لحوادث فارقة فيه كانت بمنزلة نقاط فاصلة في مساره, غيَّرت وجوه العالم، السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو التقني، ولا تزال آثارها، أو آثار الكثير منها، باقية وممتدَّة تعمل في حياة البشر، وربما مستقبلهم. لقد كان هدفي من سلسلة مقالات «شخصيات ومواقف» أن أقدِّم إلى الأجيال الجديدة نماذج لقادة ومفكرين ومبدعين خدموا أوطانهم والعالم من حولهم، ليكونوا قدوة لهم في قوة الإرادة، وشجاعة القرار، والعمل من أجل رفاهية الإنسان وأمنه وتنميته واستقراره، وأعرض أفكار هذه الشخصيات وقيمها ومواقفها، بحثاً عن حلول لمشكلات العصر وتحدياته، ولذلك كان تركيزي على الشخصيات التي أحدثت تحولات إيجابية في مجرى التاريخ، وليست تلك التي غيَّرت العالم إلى الأسوأ، أو تسبَّبت بتحولات كارثيَّة لبلادها أو للبشرية، لكن في هذه السلسلة من المقالات «أحداث غيَّرت التاريخ» أتبنَّى نهجاً مختلفاً، حيث لا أتناول فيها الحوادث والتحولات الإيجابية فقط، وإنما السلبية أيضاً، وذلك لأن الهدف مختلف، وهو الاستفادة من هذه الحوادث في تفسير تطوُّرات الحاضر وأحداثه، واستشراف المستقبل، ولذلك فإن ما أقدِّمه في هذه المقالات ليس سرداً لأحداث تاريخية، أو تعريفاً بتفاصيلها وملابساتها، فتلك أمور معلومة لدارسي التاريخ والمهتمِّين به، وإنما أقدم قراءة أخرى لهذه الأحداث من زاوية أو زوايا تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، قراءة علمية بعيداً عن القراءات الدينية أو العنصرية أو الأيديولوجية التي تشوِّه الحدث التاريخي، وتلوي عنق حقائقه لخدمة أهداف هذا الطرف أو ذاك، بينما تُغيِّب ما ينطوي عليه من دلالات ومعانٍ بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة، وتضع حوله الكثير من الغَبَش الذي يحول دون الاستفادة من عِبره ودروسه. وأنطلق في قراءتي لهذه الأحداث من قاعدة أساسية في فهم التاريخ، هي أن معاني الأحداث التاريخية ودلالاتها تختلف من زمن إلى آخر، فمع تعاقب السنين وتبدُّل الظروف تتغيَّر زوايا النظر إلى الحوادث والتواريخ، وتتغيَّر معها جوانب الاهتمام، حيث يساعد مرور الزمن على استجلاء الحدث التاريخي، بحيث يصبح ما لم يكن مفهوماً أو مُدرَكاً منه في الماضي مفهوماً في الحاضر، وأكثر فهماً في المستقبل، ولهذا فإنني لا أقدِّم قراءتي للأحداث التاريخية، التي أتناولها في هذه السلسلة من المقالات، من فراغ أو في فراغ، وإنما من وحي العصر الذي أعيش فيه، وبتأثير الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي نحيا في ظلها، وحتماً سيأتي في المستقبل مَن سينظر إلى هذه الأحداث نفسها من جوانب مختلفة، وبفهم مغاير، لأنه سيكون في زمن مختلف. إن ما أقوم به، وأرجو أن أكون موفَّقاً فيه، هو زيارة أخرى لأحداث تاريخية مهمَّة يمكن التأريخ بها للحديث عن العالم قبلَها والعالم بعدَها، مؤمناً بأن التاريخ لا يعيد نفسه، لأن هذا مستحيل، ولكن يمكن أن تتشابه حوادثه، بحيث يكون الرجوع إلى الماضي هو في حقيقته محاولة لفهم الحاضر بشكل أفضل، خاصة إذا كنا نعيش ظروفاً مشابهة لتلك التي جرت فيها أحداث تاريخية كبرى، وهذا ما نحن بصدده بالفعل خلال المرحلة الحالية من تاريخ منطقتنا العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، بل العالم كله، حيث هناك حديث عن «سايكس-بيكو» جديدة تعيد تقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية ودينية، وصراعات طائفية ومذهبية تذكِّر بمقدمات الحروب الدينية التي شهدتها أوروبا في القرون الوسطى وراح ضحيتها ملايين البشر، وإرهاصات لحرب باردة، إقليمية ودولية، جديدة يُعَدُّ الشرق الأوسط ساحة أساسيَّة من ساحاتها. وعلى الرغم من إلغاء الخلافة العثمانية منذ ما يقارب مئة عام، فإن ثمَّة من يحلم بعودتها، ويعمل من أجل هذا الهدف، ويَعُدُّه من الدِّين، ومن يتصرف مستعيداً رموزها وشعاراتها، علماً بأن التاريخ قد تجاوزها في ظل سيادة منطق الدولة الوطنية، وفي حين كان انهيار حائط برلين رمزاً لفشل الأيديولوجيا في أن تكون جداراً حديدياً بين البشر، فإن هناك من يحاول إعادة بناء حوائط الفصل الثقافي والديني والمذهبي من جديد من خلال نظريات صراع الحضارات والثقافات. وعلى الرَّغم من القناعة السائدة بأن حجم الدمار الذي أحدثته قنبلتا هيروشيما وناجازاكي قد أبعَد شبح الحروب النووية عن العالم، فإن جنون الرغبة في الحصول على أسلحة نووية، الذي يسيطر على دول بعيدة عن رشادة القرار ومسكونة بطموحات الهيمنة المبنيَّة على توجهات وأفكار دينية، فضلاً عن احتمالات وقوع أسلحة نووية في أيدي جماعات إرهابية، تجعل تكرار ما جرى في هيروشيما وناجازاكي غير مستبعَد. وارتباطاً بما سبق، سوف يلاحظ القارئ الكريم في مقالاتي المقبلة بهذه السلسلة أنني أهتم بالحوادث التي تمتد آثارها، وليست تلك التي انقطعت صلتها بالحاضر، وانتفى تأثيرها في المستقبل، كما أهتم بالحوادث التي ترتبط بقضايا وهموم سياسية وثقافية واقتصادية نعيشها في المنطقة العربية والعالم، مثل الطائفية والتقسيم والخلافة والثورة وغيرها، وتلك التي تقدِّم إلينا في العالم العربي دروساً حول الفرص التاريخية الضائعة، والقوانين التاريخية التي تحكم التطور عبر الزمن، والخيارات والبدائل التي تجنِّب تكرار أخطاء الماضي ومآسيه وكوارثه، ومخاطر الصمت تجاه التطرف، أو التساهل مع أطروحات الهيمنة، أو السكوت عن النمو المروِّع لنزعات العداء بين الطوائف والأعراق والمذاهب والثقافات، فكوارث التاريخ بدأت بإرهاصات صغيرة ربَّما لم ينتبه إليها أحد، ولم يقدر خطرها، حتى وصلت إلى نقطة الانفجار الذي دفعت أجيال، ولا تزال تدفع، ثمنه غالياً من دمائها وتنميتها واستقرارها. ومثلما أن في تاريخنا وتاريخ العالم اختراعات وحوادث ومواقف كان هدفها إسعاد البشرية ودفع الحياة إلى الأمام، فإن في حاضرنا نقاط ضوء تحتاج إلى الاهتمام بها والالتفاف حولها حتى تتسع مساحتها، وفرصاً لا بدَّ من اغتنامها قبل فوات الأوان، حتى لا يعيد التاريخ نفسه مكرِّراً كوارثه ومآسيه، بينما يظل الإنسان يكرِّر غفلته عن سُننه وقوانينه.