لا مندوحة عن الإقرار بأن الجانب الأفقر في الدراسات الإسلامية المعاصرة هو المبحث الكلامي الذي لم يعد يثير اهتماماً كبيراً في أقسام العلوم الشرعية ولدى المشتغلين إجمالا بالحقل الديني، بل ثمة إجماع سلبي قائم حول هذا العلم بين السلفيين الذين يرون في الكلام تشويشاً فلسفياً على العقيدة وجماعات الإسلام السياسي في مقاربتها الأيديولوجية للدين والتحديثيين التنويريين الذين يرون فيه ميتافيزيقا متجاوزة. ومع ذلك لابد من التنبيه إلى أن إهمال علم الكلام أفضى إلى تباطؤ وتعطل ديناميكية الإصلاح الديني الراهن في الإسلام، باعتبار أن هذا العلم وإن كان ليس لاهوتاً بالمفهوم المسيحي، فإنه يرتبط بالنظام التأويلي في الإسلام ولا يمكن تعويضه بمجرد الاشتغال على أدوات وآليات أصول الفقه التي تحتكر اليوم اهتمام المفكرين والعلماء الإصلاحيين، بل إن لهذه الأدوات والمفاهيم الأصولية خلفيات كلامية بديهية. ولعل الإمام محمد عبده أدرك أهمية المبحث الكلامي في محاولته لتطوير وتجديد المنظور العقدي في الدين من خلال «رسالته في التوحيد»، رغم أن هذه المحاولة لم تتجاوز عرض الآراء الكلامية المألوفة من منظور إصلاحي، بيد أن جل الإصلاحيين الذين تلوه ذهبوا إلى أحد مسلكين: تعويض علم الكلام بنمط من اللاهوت الدفاعي بالاستناد إلى شذرات من الفلسفات والعلوم الحديثة، الانحياز للأطروحة السلفية الكلاسيكية في نبذ علم الكلام. وفي العقدين الأخيرين برزت محاولات جريئة لبناء علم كلام جديد في اتجاهين: اتجاه متأثر بلاهوت التحرير الكاثوليكي في أميركا اللاتينية (علي شريعتي في إيران وحسن حنفي في مصر) واتجاه متأثر بالهرمنوطيقا البروتستانتية ركز على دلالات التعددية الدينية والتمييز بين العرضي والجوهري في الدين وأنماط المقاربة البشرية للنص (عبد الكريم سروش ومجتهد سبشتري في إيران). بيد أن هذه المحاولات التجديدية تمت غالباً بالقطيعة مع التقليد الكلامي، رغم الحواشي الكثيفة التي وضعها «حسن حنفي» على عمله الموسوعي السجالي في الكلاميات (كتاب «من العقيدة إلى الثورة»)، بحيث لم تستثمر الإمكانات الواسعة التي يزخر بها هذا التقليد في القضايا المحورية التي يطرحها اليوم مشروع الإصلاح الديني. ولعل أهم هذه القضايا هي ثلاث: مفهوم الدين من حيث اعتبارات الإيمان والعقل، النص في مصدره الإلهي وتلقيه البشري، أحكام الدين من حيث مفهومها القيمي والمعياري. ومن الجلي أن هذه القضايا تأسيسية وحاكمة على الجانب التكليفي من الشريعة الذي هو مدار بحث الفقهاء والأصوليين. فبخصوص مفهوم الدين، نلاحظ أن المقولة لم تنل الجهد المطلوب في التجديد من منظور مقتضيات الاعتقاد الراهنة، فظلت مرتبطة بالسجالات الوسيطة حول الإيمان والكفر، وهي سجالات تحمل بصمات الحروب الدينية، بينما الإشكال المطروح حالياً هو ما صاغه الفيلسوف الكندي «تشارلز تيلور» في كتابه الأخير «العصر العلماني»: كيف نعيد بناء المنظور الديني في مجتمعات انتقلت من الخيار الإيماني خياراً أوحد إلى أن أصبح خياراً متاحاً بين خيارات أخرى في سياقات متنوعة الاعتقاد والآراء؟ ولا شك أن في التقليد الكلامي ما يسمح بهذه المراجعة، وقد كان أبو حامد الغزالي سباقاً في هذا التصور عندما اعتبر أن الإيمان هو الانصياع لدليل العقل وحجة الحقيقة، وأن الكفر بمفهومه المدان هو العناد في قبول الحق بعد إدراكه، أما من لم تصله الرسالة أو من لم تقم عليه الحجة وظل في الطلب فهو معذور. أما مفهوم النص فقد أثار اهتماماً كبيراً في السنوات الأخيرة، إلا أن الاتجاه الغالب في المحاولات التأويلية الراهنة هو المبحث التفكيكي النقدي الذي ينزع إلى الكشف عن تاريخية النص وسياقاته دون القيام بالجهد الاستكشافي الذي يحرر المعنى ويستثمر فائض الدلالة باعتبار أن النص المقدس، وإن كان مصدره إلهياً فإن نمط تنزيله بشري من حيث اللغة ومألوف الدلالة ونسق الفهم. والواقع أن في المباحث الكلامية في الجدل حول الكلام الإلهي في بعديه الصفة والخطاب ما يسمح بالتمييز بين الكلام الذاتي الإلهي الذي لا يحيط به الفهم البشري والآيات المنزلة إلى الناس وفق شروط وآليات التواصل والتداول، وإن كانت الآيات نفسها قابلة للفهم كإشارات إيحائية لا متناهية الدلالة والفهم. وفي كل الأحوال يتفق المتكلمون على أن النص وإن كان مصدره إلهياً فإن الكلمة لا تجسد الإلهي ولا تلتبس به على عكس المقاربة اللاهوتية المسيحية. أما الموضوع القيمي في المنظور الكلامي فهو مبحث واسع يتجاوز الإشكال التقليدي حول التحسين العقلي، ويتعلق بجوهر الشريعة التي اختزلت إلى مدونة قوانين بالمنظور الحديث، والحال أنها رؤية أخلاقية للعالم تنطلق من مركزية الخير والمعروف، لا ينفصل فيها الحكم عن المقصد ولا يلغي وشائج الرحمة والقرب التي هي أساس علاقة الخالق بعباده.